جمال الغيطاني: أي سرد لأي واقع؟

حجم الخط
0

لعب جيل الستينيات في مصر دورا كبيرا في تطوير السرد العربي الحديث، وبالأخص ما اتصل منه بالرواية. يعود ذلك في تقديري إلى عاملين اثنين: الأول أنه تربى في حضن الرواية الواقعية المصرية التي تتجلى أهم معالمها في ثلاثية نجيب محفوظ. والثاني هو هزيمة 1967 التي كانت حدثا مهما في التاريخ العربي الحديث. بتضافر هذين العاملين إلى جانب ظروف أخرى تتصل بتطور الوعي الاجتماعي لدى المواطن العربي نتيجة تحولات عميقة مست المجتمع منذ عصر النهضة، برز هذا الجيل الجديد الذي كان يعلق آمالا كبيرة على المستقبل، فإذا به أمام الطريق المسدود: الهزيمة الكبرى التي أبانت عن هشاشة الواقع في كل صوره الحقيقية والمفترضة. وفي الوقت نفسه كشفت عجز الرؤية السائدة ومعها الوعي المحرك لدينامية المجتمع عن تمثل ما يجري، سواء على مستوى الواقعي أو المتخيل.
جاء الجيل السردي الجديد، في أواخر الستينيات، في مصر، وبدايات السبعينيات في الوطن العربي، ليعيد سؤال النهضة، ولكن بكيفية أخرى: لماذا انهزمنا وانتصرت إسرائيل؟ كانت إسرائيل تمثل في الوعي الجماعي امتدادا للغرب، فالاحتلال البريطاني هو الذي زرعها في قلب الوطن العربي. لذلك كان انتصار إسرائيل الوجه الآخر لتقدم الغرب. وكانت هزيمة «النحن»، تطويرا لسؤال النهضة: لماذا تأخرنا؟
أجاب عن سؤال النهضة الشيخ والسياسي والصحافي والشاعر. فكان البحث عن «الذات» أو «الهوية». وظل الواقع يتطور بمنأى عنهما. بدأ السرد يتسلل إلى الساحة الثقافية محاولا الاتصال بالواقعي والحقيقي بهدف الكشف عن الواقع وملابساته. وحصلت الهزيمة بعد النكبة، فتجدد السؤال عن الذات والآخر، ولكن بكيفية جديدة. وفي الوقت الذي تعطل جواب السياسي والعسكري والصحافي وخرس صوت الشاعر عن الأسباب الحقيقية للهزيمة، لأنه اختزل الهزيمة في البعد العسكري، وفي التواطؤ والمؤامرة، بدأ يطلع نجم الرواية العربية مع هذا الجيل، لتتحول إلى «ديوان» العرب الحديث.
تقدم للجواب عن سؤال الهزيمة السارد (الذي ينتج الخطاب السردي)، وهو يستمد مقومات جوابه من الواقع ومن الوعي الذي تشكل لديه، في اتصاله به، فأعاد النظر في علاقة الواقع بالتاريخ، فإذا بالواقع امتداد للتاريخ، وإذا بهزيمة اليوم امتداد وتطور لهزيمتنا وخروجنا من التاريخ الذي سبقنا إليه الآخرون. فكانت النتيجة إعادة النظر، من خلال السرد الروائي، في الواقع، من جهة، وفي التاريخ، من جهة أخرى. فزالت بذلك «أسطورة» الواقع الذي نتحكم في بنائه لفائدة الإنسان العربي، وها الهزيمة تثبت أنه واقع موبوء تتحكم فيه سلطة القهر والتضييق على حرية ذلك الإنسان. فبدأت بذلك تظهر الرواية الواقعية الجديدة (التجريب) التي تبحث في العلاقات بين الإنسان والسلطة، أي في الواقع بلا أوهام أو أحلام: فأعيد النظر في بناء المادة الحكائية (القصة)، وفي مفهوم «البطل»، وفي الزمن، وفي علاقات الشخصيات بعضها ببعض، بحثا عن المعنى، فإذا التفكك هو ما يطبع كل البنيات والعلاقات.
في الوقت الذي تغير فيه النظر إلى الواقع، سرديا، بسبب الهزيمة، تبدلت رؤية التاريخ العربي الإسلامي، فسقطت «أسطورة» الماضي «الجميل»، والذي ظل يعتبر النموذج الذي تنبغي استعادته، فإذا هو لا يختلف عن الواقع المعيش: فالعلاقات بين الإنسان والسلطة هي نفسها أمس واليوم. وما هزيمتنا هنا والآن، سوى صورة عن هزيمتنا في التاريخ، فبرزت «الرواية التاريخية الجديدة» والتي كان الغيطاني مؤسسها بامتياز، وستظل «الزيني بركات» علامة سردية فارقة في تاريخ السرد العربي الحديث.
اعتبرت الحركة التجديدية، مع جيل الستينيات والسبعينيات وحتى بدايات التسعينيات، في النقد الأدبي والروائي العربي بمحاولتها إعادة النظر في الواقع والتاريخ، تحولا مهما في تاريخ الرواية العربية. لكن التمييز الشائع بين الاتجاهين اللذين هيمنا في هذه الحقبة، جعل أحدهما: «تجريبا» والآخر «تأصيلا»، فتم تغييب البعد الجوهري للحركة التجديدية التي عرفتها الرواية العربية منذ أواخر الستينيات، سواء من لدن «المجربين» أو «المؤصلين». نختزل هذا البعد التجديدي في إعادة النظر في الواقع والتاريخ معا من منظور سردي جديد.
إن مقولة « التأصيل»، التي ارتبطت بالكتابات الروائية التي عادت إلى التراث (التاريخ)، ومنها كتابات الغيطاني، ليست إلا استعادة للنقاش «التقليدي» حول الرواية، وهل هي نوع «أصيل» في الأدب العربي أم «دخيل»؟ وما اعتبار روايات الغيطاني، بتفاعلها مع التراث السردي العربي، محاولة لـ»تاصيل» الرواية العربية سوى إلغاء للجهود الروائية العربية التي بدأت في التحقق في التربة الأدبية العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر، وإنكار للصيرورة الروائية العربية التي ستتطور وصولا إلى جيل الستينيات والسبعينيات.
كل النقاشات التي دارت حول الرواية العربية، وحول نشأتها، وتطورها، وحتى لحظة تجددها النوعي بعد الهزيمة ظل يحكمها الغموض والالتباس الذي تولد مع أسئلة النهضة التي كانت تضع «الذات» (العرب) مقابل «الآخر» (الغرب). وما الحديث عن وجود «الرواية» و»القصة القصيرة» و»الملحمة» و»المسرحية» في تراثنا سوى تجسيد واضح لذلك الالتباس. ويمكن قول الشيء نفسه عن «التأصيل». إن القول بـهذا «التأصيل» ليس سوى إقرار بأن التفاعل مع السرد العربي القديم محاولة لتقديم رواية «عربية» مختلفة عن الرواية الغربية؟ وهو المنطق نفسه الذي ظل يتحكم في رؤيتنا للنقد الروائي عبر المطالبة بـ»نظرية سردية عربية»، يمكنها أن «تتلاءم» مع النص العربي لخصوصيته، لأن النظريات الغربية لا يمكن «تطبيقها» على الرواية العربية المختلفة؟
يعود السبب في رأيي في كل تلك النقاشات القائمة على الالتباس والغموض، إلى عدم تفاعلنا الإيجابي مع العصر الذي نعيش فيه. ولذلك بقي «وعي» النهضة هو المتحكم في فهمنا للأدب وللنظرية الأدبية، عموما، وللسرد خصوصا. ويتجلى ذلك بوضوح في عدم تطور رؤيتنا للأنواع السردية، وعدم إيماننا بها، سواء لدى الروائيين أو النقاد، عكس ما هو موجود في الغرب.
لا يختلف الغيطاني، في تصوري، وهو يتفاعل مع التراث، أو التاريخ، عن إدوار الخراط أو صنع الله إبراهيم… إلا في الاشتغال بالمادة الحكائية التي استمدها من علاقته بالتاريخ، وإلا فإنهم جميعا ساهموا في تجديد الرواية العربية، وتجريب قواعد وتقنيات جديدة للكتابة الروائية. وكل الروائيين العرب الذين ساهموا في هذه الحركة التجديدية، أو عملوا على تطويرها إلى الآن، يعيدون النظر في الواقع والتاريخ، معا، من زاوية مختلفة عما كان سائدا قبل الخمسينيات من القرن الماضي.
لقد كتب الغيطاني «الزيني بركات»، وأركز عليها لأني أعتبرها من أهم أعمال الغيطاني، ومن أهم علامات الرواية العربية، بحس واقعي وتاريخي في آن. فـــإذا بالتــاريخ واقع، والواقع تاريخ. ويكمن تجديده في ممارسته السرد الــتـاريخي بتقنيات سردية جديدة لا تعمل على بناء الرواية بالطريقة التقليدية التي كانت تبنى بها الرواية التاريخية. لذلك أعتبر الزيني بركات، وأنا المؤمن بنظرية الأجناس، «رواية تاريخية جديدة» هي تطوير وتجديد وثورة على الرواية التاريخية القديمة، سواء في الشرق أو الغرب.
في إحدى نقاشاتي مع الغيطاني، صرح بأنه لا يكتب رواية تاريخية. لكن الوعي النقدي العربي السائد مسؤول عن هذا التصور. تشكلت لدينا رؤية سلبية عن الرواية التاريخية لأسباب كثيرة. وليست هذه الرؤية غير إحدى تجليات سوء تقديرنا وفهمنا لنظرية الأجناس الأدبية عموما، وللأنواع السردية خصوصا.
إعادة قراءة إنتاج الغيطاني في ضوء النوعية السردية، تجديد للوعي السردي، وفتح لمجالات جديدة لتنوع الإبداع السرد العربي.

كاتب مغربي

سعيد يقطين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية