لا يبدو أن أحدا معنيا يريد أن يتعظ أو أن يتعلم، وهم يتصرفون كملكية «آل البوربون» بعد الثورة الفرنسية في موجاتها الأولى، لا ينسون ولا يتعلمون، ولا تحركهم سوى دواعي وشهوات الانتقام، ودفن الثورة والبلد.
وقد استمرت الحالة الجنائزية التي توقعناها مبكرا، وتحققت بالحرف والفاصلة والنقطة، وبدت الجنازة عسكرية رهيبة، فقد شارك مئات الآلاف من الجنود والضباط في تأمين مثالي لما يوصف بالانتخابات، وبدت الأوضاع هادئة والصمت سابغا، واللجان خاوية على قضاتها وموظفيها، وبدون حضور ناخبين في جولة الإعادة الكاملة إلا في ما ندر، وبعملية تسول ناخبين، وبعملية شراء أصوات محمومة، زاد فيها سعر الصوت الواحد إلى ألف جنيه، مع حضور باهت للعصبيات والعائلات والقرابات الطائفية، وبنسبة تصويت إجمالي هي فضيحة دولية بكل المقاييس.
ولا أحد عاقل يتوقع اختلافا ملحوظا في المرحلة الثانية من الانتخابات البرلمانية، فالعينة بينة، وقرار الشعب المصري بغالبيته الساحقة قاطع نهائي، وهو أن يقاطع تلقائيا، وأن يعكس الشعور العام بالإحباط والسخط، وأن ينظم أوسع عملية عصيان مدني على طريقة «خليك في البيت»، يسقط بها أي اعتبار أو شرعية لبرلمان مات قبل أن يولد، وتسيطر عليه فلول جماعة مبارك، وهي في الحق ليست فلولا بإيحاءات المعنى اللغوي، بل أصول تحكم وتعظ، وأفعى ملتفة تمتص طاقة البلد المنكوب على النهوض، رأس الأفعى هي «رأسمالية المحاسيب»، أو من يحلو للبعض تسميتهم برجال الأعمال ورجال الأهوال، وهم مليارديرات النهب والمال الحرام، وهم أغنى طبقة في المنطقة، وأداروا الانتخابات المصرية كمضاربة مالية، واشتروا مرشحين ومصوتين، وتباروا في المقاولة منزوعة السياسة ومنزوعة المعارضة، حتى إن افتعلوا للمقاولات أسماء أحزابا، تدور كلها في مسافة التواطؤ العلني بين جماعة البيزنس وجماعة الأمن، وتتكامل فيها أدوار البيروقراطية الفاسدة مع جماعة البيزنس متضخمة النفوذ، وتنزل إلى السوق لتشترى مرشحين من المخازن التقليدية، من ذوى العصبيات الطائفية، أو من عائلات غنية على علاقة جوار كلاسيكي مع أجهزة الأمن، التي كونت بدورها قوائم، ورعت أحزابا مثيرة للسخرية، ومن نوع حزب يقال لك إنه شبابي جدا، ويحظى بدعم الرئيس شخصيا، ويؤمر رجال الأعمال بالدفع لمرشحيه، وهم ـ أي المرشحون، كلهم شيوخ وفلول من النوع الأصلي، وهو ما يذكرك بأحزاب الأقلية القريبة من القصر الملكي بعد ثورة 1919، التي اعتادت الوصول للحكم وقتها بالتزوير المنهجي المنتظم للانتخابات، وصحيح أن أحدا لا يملك تزوير إجراءات التصويت هذه المرة، ولا رمى الصناديق في الترع والمصارف، لكن تزوير إرادة التصويت ظل حاضرا، ليس على طريقة الزيت والسكر وصكوك الجنة التي اشتهر بها الإخوان، بل على طريقة الشراء نقدا وبالرأس و»على عينك يا تاجر»، وهو ما أدركه الشعب المصري الذي تطور وعيه بعد الثورة، وصار من المستحيل ضربه «على القفا»، كما كان يحدث زمن المخلوع مبارك، الذي انخلع رأس نظامه، لكن النظام نفسه لا يزال قائما إلى الآن، باختياراته وجثته الكئيبة، وبشخوصه المسيطرين على الاقتصاد والإعلام والحكومة، وبأبنائهم وبناتهم وحوارييهم في جهاز الدولة الإداري والأمني، وأرادوا بفوائض المال والسيطرة أن يصطنعوا برلمانا على مقاسهم، بدا مرشحوهم فيه كطبخة مسمومة بكل أطيافها وأحزابها، وبفرص معدومة للاختيار، اللهم إلا بين الفلول، والفلول بشرطة في الغالب الساحق من الأحوال والدوائر، وتصوروا أن العملية ستتم بسهولة وسلاسة، لكن الشعب المصري أثبت يقظته ووعيه الملهم، وقرر أن يعاقبهم، وأن يجعل برلمانهم مسخرة للعالمين، وأن يحوله إلى «ميني برلمان» انتخبه «ميني شعب» في الجولة الأولى، وإلى «ميكرو برلمان» انتخبه «ميكرو شعب» في انتخابات الإعادة، وإلى كائن وهمي معلق في الفراغ، وإلى «بتاع» ـ بلا هوية ـ في خفة جناح البعوضة، وكانت عشرات الملايين التي خرجت في 30 يونيو لإزاحة حكم الإخوان، هي ذاتها عشرات الملايين التي قررت العصيان على طريقة «خليك في البيت» هذه المرة، وفى إعلان باسل جهير عن رفض حكم وبرلمان جماعات الثورة المضادة بإخوانها وفلولها.
وقد حذرت مبكرا جدا من «تفليل» ظاهرة السيسي، وتوقعت كل ما جرى ويجري، وقلت إنه لا أمل في أن يفعل السيسي جديدا، إلا إذا أقدم على «مذبحة مماليك» للبيروقراطية الفاسدة ومليارديرات المال الحرام، تماما كما فعل محمد علي حين استقل بحكم مصر عن السلطنة العثمانية المريضة، وتماما كما فعل عبد الناصر بتصفية نفوذ قوى الثورة المضادة في مارس 1954، وتردد السيسي فلم يفعل، وكانت المحصلة أن أحيط به، وانحصرت دوائر اختياراته للحكومة والمحافظين من ذات الخزان البيروقراطى الأمني العفن، وبما حول أمر السلطة إلى فوضى وإلى متاهة، وإلى سيطرة متوحشة لجماعات المصالح، وإلى نظام قديم يحكم مع الرئيس الجديد، الذي بدت سياسته الخارجية ممتازة، واستعادت لمصر جوانب مهمة من الاستقلال الوطني وحرية القرار الدولي والإقليمي، وقلصت التبعية الموروثة للأمريكيين، ومكنت من تعظيم قوة الجيش، واستوفت نواقص عاجلة في أزمة الطاقة، واستأنفت البرنامج النووي السلمي بعد أربعين سنة من التعطيل، وكل ذلك ـ وغيره ـ مما يصح أن يحسب للسيسي كإنجازات، مع قناة السويس الجديدة وشبكة الطرق ومشروع الاستصلاح الزراعي المليوني، ولا شك عندي في احتياج مصر للمشروعات الكبرى، لكن مصر تحتاج أيضا إلى السياسة، ليس بمعنى الكلام الإنشائي، ولا تدبيج خطب في المناسبات، بل بمعنى وضوح الانحياز مع كفاءة الإنجاز، وهنا نقطة الضعف الكبرى في عمل الرئيس السيسي، فهو رجل إنجاز بلا انحياز اجتماعي إيجابي، وغياب الانحياز للفقراء والطبقات الوسطى، جعل وضع الرئيس معلقا، وعرضه للتحكم في اختياراته الداخلية من قبل الفئات المتحكمة نفسها، وتقدمها للعب دور «المقاول» الجاهز، وقد بدت «رأسمالية الجيش» متقدمة مقتحمة، وأخذت من فرص «رأسمالية المحاسيب»، ما يسبب توترا وتربصا ظاهرا، وإن لم يلغ الصلات التي ظلت وثيقة بين جماعة البيزنس وجماعة الأمن، وهو ما يكاد ينتهى بالبلد إلى مواضع خطر منذر، خاصة بعد توريط الرئيس في خطاب السبت الأسود صبيحة بدء الانتخابات البرلمانية، الذي دعا فيه الناس إلى النزول والتصويت حشودا، فلم ينزل أحد، وقاطع الشعب كله تقريبا، وهو ما يخصم بالبداهة من شعبية الرئيس، ودواعي الأمل فيه، صحيح أن ما جرى قد لا يكون استفتاء نهائيا بالمعنى الدقيق على السيسي شخصيا، لكنه استفتاء بالغ الدقة على نظام الرئيس، أو «لا نظامه» بالأحرى، وهو ما يبرز خطورة ما يجري، ويلقي ضوءا كاشفا على طبيعة الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة، فنحن بصدد رئيس يبدو منحازا ـ حتى اليوم ـ للأغنياء والفاسدين والناهبين والفئات المتحكمة، ولم يتخذ إجراء واحدا يطمئن إليه الناس، في ما عدا اكتتاب قناة السويس، ويتردد في خوض حرب «تطهير شاملة»، وفي استرداد الأموال المنهوبة، وتخضع اختياراته وقراراته الاقتصادية والاجتماعية لمزاج المليارديرات، في بلد يملك فيه واحد بالمئة من السكان نصف الثروة، ولا يملك تسعون بالمئة ـ هم الفقراء والطبقات الوسطى ـ سوى ربع الثروة، وتتناهشهم دواعي الفقر والبطالة والبؤس والأمراض القاتلة بالمعنى الحرفي، ولا يبدو الزمن محايدا، فاستمرار تردد الرئيس يتآكل بدواعي الأمل فيه، ولن يفيده الكلام العاطفي الذي تعود على ارتجاله، ولا ترديد شعار «تحيا مصر» كأنه تميمة ضد الزمن والصراع الاجتماعي الجاري، فإن «تحيا مصر» حقا، تعني أن يحيا المصريون بغالبيتهم الساحقة، لا أن يحيا اللصوص، وأن يسيطروا على قرارات الحكومة وتشكيل البرلمان، وهو برلمان لا يمثل أحدا سوى طبقة الواحد بالمئة الناهبة الغاصبة، وهو ما قد يعني سد الطريق أمام التغيير بالبرلمان حتى إشعار آخر، ويحرم البلد من فرصة تطور تدريجي، خصوصا مع تردد وصمت الرئيس الذي يشبه الرضا، وعزلته المتزايدة عن حس الناس، وتطويقه بفئات المستشارين الركيكة، وبتقارير أجهزة أمنية غرق بعضها في الفساد حتى الآذان، والمحصلة ـ مع تردد الرئيس وتهافت البرلمان ـ تبدو ظاهرة، فلا يوجد شعب تتجمد حركته السياسية والاجتماعية تماما، ومع انسداد السبل، نتوقع أن تعود الحركة المصرية ـ الاجتماعية بالذات ـ إلى الميدان من جديد، وأن تتداعى إلى الشارع والمصانع وأماكن العمل موجة إضرابات وتظاهرات واحتجاجات اجتماعية جارفة، وأن ترتسم ملامح اضطراب متزايد على خرائط الوضع المصري، لن يكون بالوسع قمعها بتخويف الأمن، خاصة مع التراجع المرئي وانكماش عمليات الإرهاب وجماعاته، وقد لا نكون وقتها بصدد ثورة خلع ثالثة بالضرورة، بل بصدد تحول الغضب الصامت ـ على طريقة مقاطعة الانتخابات ـ إلى غضب ناطق، فلم يعد بوسع سواد المصريين أن يصبروا أكثر، ولم تقم ثورتان وينخلع رئيسان، حتى تعود الأمور إلى سيرتها الأولى، ويعود الذي كان حاكما غاصبا سارقا فوق الرؤوس من جديد، واللهم قد أبلغت، فاشهد عليهم وعلينا.
٭ كاتب مصري
عبد الحليم قنديل
ارجو من الكاتب الكريم عقد مقارنه موضوعيه بين الانتخابات التركيه ونظيرتها المصريه وذلك في مقاله الاسبوع القادم وله مني كل الشكر والتقدير.
احترم مواقف قنديل واثق في تنبؤاته ، حمى الله مصر والمصريين !
لماذا لا يسال الكاتب نفسه او يتجاهل السيسي انقلب بمساعدة اساسيه من الفلول ورجال الاعمال باموالهم واعلامهم والبلطجيه والفاسدين …وهو وهم الذين شرعوا القوانين التي اوصلتهم للبرلمان خلاف الزج بكل من يعارض بالسجون ونكميم افواه كل شريف او حتى منتقد
طبعا السيسي هوا الملاك الذي يخدع من الفلول ويغصب علي الخطاب يوم الانتخابات ويغصب علي التصويت في الامم المتحدة لصالح اسرائيل في حادثة لم تحصل في عهد اي رئيس او ملك او قائد او امير عربي,وهوا الذي يغصب علي دعم الفلول ويغصب علي رفع اسعار الغاز ويغصب علي خداع الشعب,وهوا مسكين لا حول له ولا قوة, حبوب طيوب ابن ناس راجل محترم !
ماذا تقول يا سيد قنديل؟هل هذا يعقل يا استاذنا الموقر؟
نعم ا لشعب سيسقط الطاغوت.
لقد عشنا وشفنا واصبحت الامور واضحة وضوح الشمس باننا كنا وما زلنا اضحوكة لمن يأكلون على كل الموائد. تعلمنا ان نحترم الخصم وانا اسميه المنافس لان المنافسة هي من احدى أليات التطور في كل المجالات ولكن اصحاب الاقلام الصفراء لا يفهمون هذه اللغة بل هم يفهمون شيئا واحدا هو الإقصاء ومن حسن الحظ ان اينشتاين لم يولد في بيئتهم لانه لو خالفهم لاتهموه بالأخونة فهم لم يروا ما يعمل كبيرهم السيسي من هدم وقتل وصناعة التخلف ناهيك عن اغراق غزة بالمياه. هؤلاء استوردوا العلمانية ولم يفهموها لان هضمهم عسر وعقلهم الباطني ينضح بالفاشية ويغردون اغنية لا اريكم الا ما ارى. لن ولن تسير مصر الى الأمام ما دام هؤلاء على المسرح يهرجون ولقد رأينا ماذا حصل لليابان من تقدم صناعي مقارنة ما حصل في مصر مع ان الكلام عن النهضة الصناعية حصل في نفس الوقت فانظر الى النتائج، احدهما تألق في العمل فانتج والآخر تألق في الدجل فافسد… هؤلاء بحاجة الى درس من دروس اردوغان وليس الى صاع من ارز.