( )
طقوسُكَ، لو كنتَ حياً. طقوسك لو مرةً صدّقت : لي جسدٌ ولي فضاء.
)شارون(
لو متَّ
عرفتُك بما يكفي، لأجعلَ قلبي
حجراً
ويديَّ
مقلاعيْن.
( )
أصدقائي البعيدون مثل رحمة مؤجلة. أصدقائي الذين يحرسون وحشتي من الزؤان. الذين بماءٍ سماويّ روّوا تربة قصيدتي. الباعثون نبيذاً في البريد المستعجل. ورقاً في فم الطير. الآرقون مثلي، لأن ثمة خطايا لا أخطاء في المشهد العالمي. أصدقائي، ذخيرتي وخميرتي. المعنى في مشقة الرحلة. رجفة اليد لحظة الوداع. أصدقائي هؤلاء، حنيناً، دون مناسبة، سلاماً، أرسل لهم في صباحات الحرب هذه.
( )
واحدٌ سوايَ خطّطَ هذه اللوحة. أنا كنت نائماً طوال الأمس: طوال الأسبوع الماضي. شهر آذار جاء وراح وأنا نائم. الأصدقاء طرقوا بابي، وما رددت عليهم. الخادمة أيضاً. ما شربت معها الشاي أو النبيذ. واحد سواي رسم هذه اللوحة. وأنا مثلكم مندهش. مثلكم مستغرب ومستريب. فمن رسم هذه اللوحة في أبدية نومي؟ من علّقها على حائط غرفتي؟ من طبعها على شرشف المائدة؟ من خربشها على زاوية المرحاض اليمنى؟ ومن، بأحمر زرنيخٍ وقّعها على المرآة؟
( )
أنا . أصطاد الظلَّ إذ تهبطُ العتمة. أصطاد الحشرجة من كل صوت. أعرف متى سينهار رجلٌ وهو في كامل صموده. متى ستقول كلَّ ما ليس حقيقتها، امرأةٌ ثاكلة. أنا ، الذي رأى، الذي عاش، الذي غضِبَ، الذي أحرق ملايين اللفافات. لم ينصفني أحد. لم يأبه بي ولا بهم واحد. أنا ، وتلك مهنة آخر العمر: كل مساء، أجلس على كرسي وحيد، في غرفة وحيدة، في كون وحيد: كل يوم، أصطاد الظلّ من ثنيات العتمة. وأرقب حشرجة كل صوت. ولا أكفّ عن الغضب.
( )
يقصفون: منذ ليلتين يقصفون. أنت كلا. أنت لا تخشى القذيفة. ما تخشاه أبعد وأنكى: منذ ليلتين، تطارد قصيدة ولا تجدها. إن تلك، بالنسبة لمن هم على غرارك، هي ‘خسارة الحرب’. خسارة تضاف إلى كل الخسارات. خسارة تضاف إلى مسيرة طويلة مما يمكن تسميته ب : الغباء البشري. حذار! إنهم، أيضاً وأيضاً، يقتلون أجنة القصائد!
( )
ما إن تندلع الحرب، يكون الله أول المفقودين. رأيت كثيرين يسألون عنه. يستقصون عن مكانه. يتذللون له بأن يرحم. وما من رد : ما من جواب. فالله، هو أيضاً، يُفقد في الحرب، يفقد بالأخصّ في الحرب، كما هو مفقود في كل الأوقات.
( )
ننتظر الحرب. أسبوعاً ونحن ننتظر الحرب. يجتاحون؟ لا يجتاحون؟ سؤال كل يوم. كل لحظة. أعصابنا تهرّأت. هذا ما يبتغيه العدو : ننهار نفسياً وعصبياً. ثم بعدها يدخلون. وكما في كل حرب، تغيب الشفقة، ويرجع ابن آدم إلى وحشيته. حدث ذلك في جنين، ونخشى حدوثه الآن في غزة. فماذا عنك؟ ماذا عنك يا صديقي؟ لديك أولاد ومسؤوليات. لديك، كما الجميع، مخاوف وهواجس. لكنك تزيد عليهم، برعب من نوع خاص: رعب ثقافي. ماذا عن المكتبة؟ ماذا لو حرقوها ودمروها؟ كل شقا عمرك، وضعته فيها. حرمت نفسك وحرمت العائلة، من أجل تغطية فجوات عديدة في الروح. هل يفهم جنود [تساهل] ذلك؟ هل، لو دخلوا بيتك، ستتحفك الصدفة بجندي احتياط مثقف ومتذوق للأدب والموسيقى، فيرحم مكتبتك، ويدعها لشأنها؟ ذلك ما تأمل. ذلك ما تحلم، ولو بدا هذا الحلم الخلاصي، زائداً وثقيلاً على مزاج هذه اللحظة.
( )
يا أبي .. ذهبوا في الغمام، وبقيتُ لأتذكّرهم. ما من امرأةٍ، لو حظٌّ يبتسم، فتُنسيني : تأخذني خارج بيت الذكريات. ما من شيء. أشياؤهم في متناول الرئة. أكاد ألمس أنفاسهم باليد، بالأظافر. أكاد من امتلائي بهم، تفرُغ نفسي. هنا كانوا. هنا عاشوا. هنا آخرُ ميتٍ فيهم، تركَ نصف بيضة الإفطار. ترك السرير مُجعلكاً : ترك الباب موارباً، والهواءَ مكتوماً. أكاد ألمسهم واحداً واحداً، مَن ماتوا قبل قرن في هذا البيت العتيق، ومن ماتوا قبل سنة. آه ما أصعب الإقامة، وفيّاً، في بيت الذكريات.
( )
قلبُكَ، ليس أنبل من قلب الحمامة أو الذئب. كلها قلوب. كلها منذورة للنسيان. نبضت أم لم تنبض. شعرت أم لم تشعر. مآل كل القلوب العدم. مآل كل القلوب النوم الطويل بلا أشقّاء.
( )
يا بلادي. يا فمَ الوحش الذي لا يرتوي. يا آكلة الجثث مثل ضبع الغابة. يا نكروفيل كل فتى ميت. كل فتاة ميتة. أُغربي يا بلادي، انزاحي ولو هنيهةً عن صدورنا، نحن أولادك الطيبين.
( )
كيف تأخذ قسطاً من النوم، والشهدا يسقطون جوارك؟ كيف تطفئ نارك؟ عملتَ على وردةٍ من نباتٍ، قرابةَ شهرينِ ـ ما زلتَ تعمل. وها هي ذي : وردةُ الدم تأتي وتُلغي أجندةَ يومك. كيف تطفئ شعلوبَ بُكمك؟ يسقطون على مقربة. يسقطون على عتبة. يسقطون. الرصاصُ يئزُّ على السقف، يمرقُ من خلل النافذة. الرصاصُ الرصاصُ. فمن سوف ينقذك الآن؟ ينقذهم وهمُ بين غيمٍ وريح؟ بين نار ونار؟ وهم بين ميْتٍ سريعاً يغور إلى عانة الأرض، ميْتٍ يؤجّلهُ الانتظار؟ إنهم فتيةٌ، ربّيتَ بعضهمُ. فتيةٌ صادقوكَ وأسعفتهم بالسجائر. فتية مثل ريحانة في الربيع، وأنضر. كيف يجرؤ موتٌ عليهم؟ كيف يجرؤ قبرٌ فيفتحُ شدقيه كالكركدنّ؟ كيف يرسلهمُ، من بيته، رجلٌ قاصرٌ، دون رفّة جفن؟ يا إلهَ الخراب : نجّنا من جنون المشايخ. نجنا من أسانا ومن فيض هذا العذاب ،،،،،،،، يا إلهَ الخراب.
ssسامي مهديsssppنثر الحياة اليوميةبون جور مسيو شارل بودلير.ها أنا أقدم لك شيئاً من نثر حياتنا اليومية.pppيُعثر في عاصمةِ بلادنا يومياً على عشراتِ الجثث لرجالٍ يوصفون عادة بأنهم مجهولو الهوية، حتى وإن بقيتْ رؤوسُهم تتدلّى على صدورهم، وأفصحت وجوهُهم عن هوياتهم.جثث تخشى الاقترابَ منها حتى الأمهات. عليها آثار ما يُسمّى التعذيب : أطراف محطمة، عيون مسملة، أظفار مقتلعة، ظهور مقلّمة بسياط معدنية، ثقوب سود مدورة أو مسننة في الظهور، وأشياء أخرى غريبة للخيالِ دور في ابتكارها. فالتعذيب، كما علّمنا التاريخُ، فنٌّ من الفنون.خذ مثلاً جثةَ رجلٍ شُقَّ بطنُه وزُرِعَ في جوفِه رأسُ ابنِه الصغير. فهذه صورةٌ لا تولد إلا من خيالٍ غيرِ تقليدي، خيال فوق _ سوريالي، لأن السورياليين التقليديين ( وهذا ليس ذمّاً ) ليعجزون، بكل صورهم الاعتباطية ورسومهم المركبة، عن خلقِ شبيهٍ لها، حتى لو جنّدوا للمهمة منظومتهم الدولية بأسرها. ولكي نعطيَ هذا الخيالَ حقَّه كاملاً، ينبغي علينا الاعترافُ بأنه لا يخلو من روحٍ مرحةٍ ومزاجٍ رائقٍ للتفكّه والسخرية، فله هو أيضاً دعاباته السود. وإلا فما قولك بجثة قُطِعَ رأسُها وخِيطَ في موضعِه رأسُ كلبٍ أسود ؟ في المشرحة، تفجّع أحدُهم على الكلبِ وقال بإخلاص :ـ لولا صاحبُ هذه الجثةِ لبقيَ هذا الكلبُ المسكينُ حياً بين أبناءِ جلدته الكلاب. ولست أدري كم كان هذا مصيباً، لكنني أعرفُ جيداً أن الكلابَ لا يقتلُ بعضُها بعضاً إذا اختصمتْ، خاصة إذا كان الأمرُ يتعلق بتركيبِ رأسِ أحدِها على جثةِ مخلوقٍ غريبِ الأطوار يدعى : الإنسان.وأنت، ما رأيك يا مسيو بودلير ؟7 / 9 / 2006إنترنيت كثيرة جداً هي المواقع على هذه الشبكة، وهي تفرّخ يومياً مواقعَ جديدة، ربما في كل ساعة، أو في كل دقيقة، وقد يصح عليها وحدها القول : إنها لا تعد ولا تحصى.وهذه المواقعُ حرّة، حريتها مطلقة، بلا قيودٍ ولا حسيب. وإذا كان ثمة واحة للديمقراطية فهي هي. لكنها ديمقراطية سهلة، نفتقدها على الأرض ونمارسها في عالم افتراضي. وكثيراً ما تكونُ بلا مسؤولية : سوقاً للهرج والمرج.بعضُهم جعلها ميداناً للنضال، ميداناً لا يخسر فيه شيئاً، فلا هراواتٌ، ولا سجونٌ، ولا رصاصٌ يثقب الصدور. وهو يعدّه نضالاً برغمِ كلِّ شيء، يفجر فيه غضبَه، وينفس عن مكبوتِه، وينتقم لنفسه، وربما لغيره أيضاً، لحزبه مثلاً، أو لطائفته، أو جماعته، وأخيراً أخيراً لشعبه.مع ذلك، يوجد في مكان ما منها رقيبٌ خفيّ خبيثٌ هو : الأخُ الكبير، ورقيبٌ آخرُ غبي هو : الأخُ الصغير. فكلاهما صار يخشاها بعد أن انقلب السحر على الساحر وأصبح حتى عميد الشبكة مرمىً مفضلاً للأحذية.هناك أيضاً لصوصٌ أذكياء يسرقون الكحل من العين، ومتطفلون حاذقون ينشرون الفايروسات، ومحتالون من نيجيريا ومن غيرها، ولاعبو ثلاث ورقات، ودجالون من كل نوع، إلى جانب الأخيار والظرفاء والتفاعليين المولعين بالثرثرة.وهكذا وجد الذكي والغبي، والصادق والكاذب، والجاد والهازل، والظريف والثقيل، والعفيف والداعر، بغيتَه فيها، وربما فرصته التي لا تعوض، وكل يختار ما يناسبه، ويرضي ذوقه، أو حاجته، أو طموحه، بمن فيهم الأدباء والمتأدبون ومن لا أدبَ لهم. لكن قانونَ الوفرةِ والندرةِ صار ينطبق عليها. فكثرة الشيء تُرخصه، وإذا رخص ابتذل، وإذا ابتذل هان، فهانت الكلمة، وهانت الصورة، فكلتاهما كثرت، وكلتاهما أصبحت مجانية. ثمة استثناءات من دون ريب، قد تكون كثيرة لكنّها بثمن، ومن ذا الذي يفكر بدفع ثمنٍ في سوقٍ يطغى عليها البيعُ بالمجان ؟10 / 12 / 2007 هويات ناقصةأشعر دائماً بأن هناك نقصاً ما من حولي. فالبيوتُ ناقصة، والطريقُ، المشاةُ، الحوانيتُ، أعمدةُ الكهرباء، وهذه السيدةُ الجميلةُ المقبلةُ بثوبِها اللاهثِ اللاهب. حتى الهواء يبدو لي ناقصاً على نحوما. كذلك الأصدقاء ورسائلهم. أما جيوبي، وهذا أمر لا يدعو للأسف، فهي ناقصة في كل حال. لذا عفوتُ نفسي من البحثِ عن الكمالِ حتى في نفسي، وقبلتُ السيرَ في هذا العالم بهويةٍ ناقصة. 15 / 12 / 2007عريلا شيء يخفى. كل ما نواريه تجتاحه رياحُ الفضول. وكل ما نكتمه تنبشه أصابعُ الفتنة. نحن مكشوفون تماماً. نحن عراة، نتدثر بأغطيةٍ ثقيلةٍ وتفضحنا أغطيتُنا نفسها. 17 / 12 / 2007حين سقطت طروادةلم يكن ثمة حصانٌ خشبيٌّ واحدٌ، بل أحصنةٌ عديدة. لكنْ ما من أحدٍ كان يدعى : أغا ممنون. مع ذلك ظهر عشراتٌ يحملون اسمَه حين سقطتْ طروادة، وكلٌّ منهم يدعي أنه الرجل. ترى هل لنا أن نلومَ أحداً غير طروادة التي سقطت ؟20 / 12 / 2007شاعر من العراق83