تضاريس الكتابة نثر الشعراء نموذجا

حجم الخط
3

حتى وقت قريب كانت تضاريس الكتابة محفورة بأدوات نقدية حادة أشبه بالفؤوس، بحيث يقدم الشعر والنثر كما لو أنهما مستقيمان متوازيان لا يلتقيان، وكان لا بد من بطل كوميدي كالذي تخيله موليير، كي يكتشف بأنه ناثر لمجرد أنه يتكلم، وما يقوله ليس شعرا، كما كان أيضا لا بد من رولان بارت كي يعود بالكتابة إلى درجة الصفر، وتبدو خانات الأنواع أشبه بأثلام في أرض مزروعة، هي من التراب ذاته رغم اختلاف الأشجار أو الأعشاب التي تغطي تلك الأثلام.
وقد انقضى ذلك الزمن الذي كانت منابع الشعر فيه من جبل الأولمب أو من وادي عبقر، بحيث يعير شاعر آخر بأن شيطانه الملهم أنثى وليس ذكرا، وأن الموهبة هي فصيلة دم أخرى إذ تكفي وحدها لتحويل التراب إلى ذهب والنثر إلى شعر، كما حدث لميداس الأغريقي في الأسطورة.
الفن بمختلف تجلياته شعرا ورسما وعزفا ونحتا ليس مجرد عرق من طراز آخر تفرزه غدة مجهولة الإقامة في الجسد، لهذا كان منه الفطري الذي توقف عند حد ما مثلما كان منه وليد المران والخبرة والحواس المدربة، بل المثقّفة إذا شئنا استخدام مصطلح نقدي قديم، فالشاعر صانع أيضا لهذا أهدى ت. س. إليوت قصيدة «الأرض اليباب» إلى إزرا باوند ناعتا إياه بالصانع الأمهر، لكنها صناعة من نوع آخر غير مألوف في عالم الصناعات بمعناها الحِرفي الدقيق، من هنا كان أبرز الشعراء نقّادا بدرجة أو بأخرى، وتبعا لما يقوله إليوت، فإن مسودات الشعراء هي النقد التطبيقي لأنه إذ يختار ويضيف ويحذف إنما يمارس نقدا من الداخل ومن خلال العملية الإبداعية ذاتها، هكذا كان شعراء الرومانسية، وفي مقدمتهم الثالوث الإنكليزي شيلي وكيتس وكولريدج نقادا، وما كتبوه عن الشعر وفي الشعر خصوصا كولردج في تجلياته عن الخيال كان نقدا بامتياز، وكذلك البيانات الشعرية التي أصدرها شعراء عديدون، كالسيرياليين والدادائيين وحتى الواقعيين، لأن الشاعر الذي يستشعر اغترابا ما عن السائد الجمالي والفكري في عصره يجد ما يدفعه إلى تسويغ مغامرته، وترشيد الصّدمة التي يحدثها لدى المتلقي، الذي كان لزمن طويل أسير ذائقة اتباعية وحساسية موروثة، وفي الشعر العربي الحديث تحولت الكتابات المصنّفة نثرا لدى بعض الشعراء إلى سؤال حول العلاقة بين شعرهم ونثرهم، خصوصا هؤلاء الذين نافس نثرهم الشعر في جمالياته وأسلوبه ومعجمه اللغوي .
قيل شيء كهذا عن أدونيس ونزار قباني ومحمود درويش وممدوح عدوان وآخرين، ومنهم من اعترف بأن كتابته للنثر تتيح له التحليق عاليا وبعيدا عن الأطر كلها، فقد قال محمود درويش ذات يوم أنه يشعر حين يكتب النثر بأنه أشبه بحصان جامح برّي لا يعوقه سرج أو لجام أو سائس، ورغم أنه لم يكتب قصيدة النثر بالمعنى المصطلح عليه نقديا، إلا أنه وجد النثر ملاذا لاستيعاب ما لديه من فائض انفعالي، لكن ليس بالمعنى الذي يتصوره البعض، وهو أن نثر الشاعر هو ما تراكم على عتبة ورشته الشعرية من نشارة الشعر، أو برادته، كما هو الحال في ورشات الحديد والنجارة.
النثر إبداع مواز حتى عندما يكون نقدا، شرط أن يكون اجتراحا وملامسة للجذور لا للجذوع، لكن مقابل هؤلاء الذين حققوا توأمة بين شعرهم ونثرهم ثمة آخرون افتضحهم ما كتبوه من نثر، سواء من الناحية المعرفية أو حتى اللغوية، لأنهم وجدوا أنفسهم عراة من إيقاعات تستدرجهم أكثر مما يستدرجونها، ومن مجازات وانزياحات لا يتيحها النثر إلا بحدود معينة، لأن رقابة الوعي تتدخل لتعثر على الطريق في الغابة!

* * *

في ستينيات القرن الماضي نشر العديد من شعراء الحداثة العرب تجاربهم في كتابة الشعر فبدت تلك العيّنات مادة نموذجية لاستقراء نقدي، لكن النقد الكسول والأشبه بنحل معلوف بالسكر ولا صلة له بالرحيق لم يفعل رغم أن ما كتبه صلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي كان مثيرا للتأمل في هذه المسألة، فالاثنان على ما فيهما من تباعد ثقافي كتبا عن الشعر كما يودان كتابته، وليس عما كتبا منه.
وقد كانت الثقافة متعددة المرجعيات لدى عبد الصبور والأسفار لدى البياتي عونا لكليهما، كي يضيف إلى شعريته ما كان يتمناه، وهذا يذكّرنا بما كتبه فالاس فاولي عن السيريالية، حين قال ان هناك ما يتسرب من التجربة خارج القصيدة، بحيث تتحول إلى انتشاء داخلي أكثر مما تقبل التّحويل.
وهناك تجربة تستحق التوقف في هذا السياق للراحل ممدوح عدوان، خصوصا في كتابه دفاعا عن الجنون، وهو مقالات منها مقدمات لشعره أو لآخرين في مجالات إبداعية أخرى، كمقدمته عن الفنان لؤي كيالي الذي مات محترقا، ولأن ممدوح عدوان كان ناثرا إضافة إلى كونه شاعرا، وكتب في المسرح وعنه وفي السياسة أيضا والرسم، وترجم العديد من الكتب منها «الطريق إلى غريكو» لكازنتزاكي، فهو يبدو إشكاليا أكثر من سواه، حيث ينقسم نثره إلى ما هو وظيفي هادف لإيصال موقف أو فكرة وإلى ما يتخطى الوظيفية للتعبير عن الذات.
والترجمة اختبار آخر للشاعر حين يمارسها، لأنه قد يضيف إلى النص المترجم جماليات من صلب لغته وقد يفقره بالاقتراض منه، لهذا قال جيته بعد أن ترجم نيرفال شعره إلى الفرنسية، إنه لم يعد راضيا عن شعره الذي كتبه بالألمانية، وثمة من يرون أن رباعيات الخيام كما ترجمها فيتزجرالد تخطت الأصل.
أخيرا هذه ليست مقدمة أو خاتمة للدفاع عن نثر الشعراء، فهم ليسوا سواسية، لكن ما يبقى لدينا مهما اختلفنا حول هذه المسألة، هو أن أبرز شعراء عصرنا هم أيضا من أهم ناثريه.

كاتب أردني

خيري منصور

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول جاسم المخزومي... بغداد:

    صدر في عمان عن دار غيداء كتاب للعراقي الدكتور علي صليبي المرسومي كتاب ( الشاعر العربي ناقدا : أدونيس- عزالدين المناصرة – علي جعفر العلاق ). والكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه نوقشت في جامعة بغداد عام 2011- نوقشت فيه مسألة الشعراء الذين ينجحون كشعراء وكنقاد معا. كما أشار الى هذه المسألة الناقد البحريني جعفر حسن في مقالة له عن أربعة شعراء نجحوا في المواءمة بين الشعر والنثر وهم ( أدونيس- عزالدين المناصرة – نازك الملائكة – محمد بنيس ).
    – لكن المشكلة تكمن في( باحثين جيدين ) فشلوا حين أصدروا مجموعة شعرية أو أكثر ولم يحققوا ذاتهم الشعرية فانقلب فشلهم حقدا نقديا على الشعر والشعراء.

  2. يقول رافت العيص - فلسطين:

    تخية استاذنا خيري منصور: لا نبالغ اذا قلنا أن الشعر أكثر بقاءا وديمومة وحتى تعبيرا من النثر. فالقصيدة العمودية وحتى الشعر الحديث يلامس القلب اذا ما كان صاحب الشعر ذو احساس. فهناك قصائد كتبت منذ قرون مثل المعلقات ولا تزال تحافظ على قيمتها الابداعية ومكانتها الشعرية رغم مرور الزمن بحيث اصبحت مثل الايقونات وتعتبر منجم قديم للغة العربية. كثير من الشعرء المحدثين اصبح شعرهم للاستهلاك مثل الهمبورغر ما أن يطبع حتى يدخل عالم النسيان ولا يتداوله أحد، حتى اصبح فائض الانتاج ومنتهي الصلاحية أكثر من الشعر الذي له صفة الديمومة والبقاء.

  3. يقول حي يقظان:

    الأخ خيري منصور،

    كما قلتُ تعقيبًا على مقال الأخ منصف الوهايبي «الشعر على الشعر: حرّية الشاعر/ سلطة اللغة» (ق ع، 30 تموز 2015 )، الكلام عن الشعر بلغة مصطلح «الصَّنعة»، على حدِّ تعبير الشاعر ت.س. إليوت، ليس كلامًا حديثَ العهد، في واقع الأمر. وحتى لا يتوهم القارئ بأن هذا المصطلح قد انبثق من صلب ما قام به شعراء عالميون معاصرون مما سمَّاه النقاد العرب القروسطيون بـ«التنقيح» و«التثقيف» و«التحكيك»، إلى آخره، فإنه (أي مصطلح «الصَّنعة») يعود بأصوله إلى اللغة الإغريقية القديمة إلى الاسم / المصدر Poïesis / ποίησις الذي تم اشتقاقه من الفعل ποιέω (أو بالإنكليزية make)، والذي يعني «يصنع» بحرفيَّته تمامًا، ومنه صيرَ إلى استخدامه في اللغة اللاتينية القديمة والوسطى، ومن ثمَّ في بقية اللغات الأوروبية الحديثة.

إشترك في قائمتنا البريدية