«إعمار على الموج» يؤكد منهجية العدوان «المحمي» على البيئة في لبنان

حجم الخط
0

بيروت ـ «القدس العربي»: لدى اللبنانيين عامة مشاعر مقيمة بأنهم لا يأمنون نوايا وأفعال المسؤولين عن وطنهم، ويسردون ممارسات تعزز مخاوفهم، تبدأ ولا تنتهي. ممارسات تنتهك الذاكرة الوطنية والشعبية والتراثية وحقوق المواطنين، لصالح تسخير السلطة للمصالح الخاصة، وتلبية لشراهة رأس المال والمشاريع السياحية الإستثمارية. مؤخراً برزت إلى الواجهة الإعلامية «الحملة الأهلية لإنقاذ دالية الروشة». في الجغرافيا الخاصة بشاطئ بيروت تجاور الدالية صخرة الروشة الشهيرة، قبل حوالي سنة وُضعت اليد عليها بمسوغ شرائها من بلدية بيروت، ُطرد الصيادون من مينائهم التاريخي، أحيطت المساحة الشاسعة بالشريط الحديد الشائك، ومنع المواطنون من الوصول إلى البحر. قبل اسبوعين دخلت «الحملة الأهلية..» إلى المكان «المحظور» وحاولت فتحه أمام الناس، انطلاقاً من نص دستوري يعتبر الأملاك البحرية ملكاً عاماً يُمنع بيعه. وكانت الحصيلة شكوى قضائية بحق مواطنين، رفعها من تملكّوا الدالية.
إعلامياً وميدانياً تجهد تلك الحملة بشتى الوسائل في سبيل إنقاذ ذاكرة بيروت والمساحات العامة المتبقية على الشاطئ وغيره من جشع رأس المال. تلك الحملة تناغمت مع الحراك الشعبي رفضاً للنفايات التي تكاد منذ أربعة اشهر تغطي على كل ما عداها من أحداث. ومن هذا المنطلق كان استحضار الفيلم الوثائقي «إعمار على الموج» للمخرج ماهر أبي سمرا، والذي عرض في بيروت سنة 1995. دعت «الحملة الأهلية للإنقاذ دالية الروشة» لحضوره من جديد في مسرح المدينة في بيروت، حيث شهد اقبالا كبيراً من جيل الشباب ومن ناشطين بيئيين ومختصين بأمور البيئة. ماهر أبي سمرا، وكما هي مهمة المبدع والفنان الحقيقي، تمكن قبل عشرين سنة من استشراف المستقبل فيما يتعلق بحركة الإعمار التي سادت. ولحسن حظ المخرج، والفيلم معاً، أنه انجز وعُرض في زمن لم يكن خلاله لبنان قد دخل أتون الانقسام الـعــمــودي القـاتل بين ما يــعــرف بـ 8 و14 آذار، والذي صار واقعاً بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري.
قراءة المخرج أبي سمرا لمشهد الإعمار ولمقولة الرئيس الراحل «البلد ماشي والإعمار ماشي» وبعد خمس سنوات من وضعت الحرب الأهلية أوزارها، استشفت ما نحن عليه حاضراً. المافيا التي حكمت ودمرت لبنان خلال الحرب الأهلية وهي بالزي العسكري، لن تتمكن من أن تمسك به إلى بر الأمان كمافيا أصبحت لها ربطة عنق في السلم. بمنظوره الفكري والمنطقي وكما هو حال الغالبية الساحقة من المواطنين اللبنانيين. من دمّر لبنان يستحيل أن يعيد البناء، هذه خلاصة أبي سمرا. على مدى 26 دقيقة فقط لا غير كثّف المخرج عشرات المشاهد والصور التي تدفع للبكاء على وطن يشنّ حكّامه حملة إبادة على البيئة دون مبالاة بالحاضر والمستقبل.
في العمق تمكن أبي سمرا عن قصد أو بدون قصد من قراءة طالعنا السيئ قبل عشرين سنة مضت. نعم خرجنا من دائرة الإقتتال والإحتراب الأهلي، لندخل في حالة عنف جديدة تزداد تجزراً في مجتمعنا وبيئتنا بطولها وعرضها. إنها الحرب على البيئة وكل ما يمت بصلة للسلامة العامة. يرصد أبي سمرا بدايات إطلاق مشروع الإعمار بعد الحرب وبتوافق بين كافة المتقاتلين على مدى سنوات الحرب في العلن، والمساندين والداعمين من خلف الستارة بالسلاح والمال.
يسلط «إعمار على الموج» الضوء ملياً على كارثة استحضار النفايات السامة الايطالية إلى لبنان سنة 1987 بتوافق بين مافيا الصناعة الطليانية والقوات اللبنانية. 15700 برميل انتشرت في كافة الأراضي اللبنانية، وبخاصة في كسروان. بعد حراك بيئي جدي من قبل مختصين وجمعيات بيئية تمت استعادة 6000 آلاف منها. كل من اقتربوا من تلك البراميل لقوا حتفهم بين سنة ونصف وسنتين.
في الكوارث البيئية المفتعلة والمتمادية في لبنان لا حدود. كوارث الاعتداء على الصخور، ورمال الشواطئ من الناقورة وحتى النهر الكبير. صوّر الوثائقي سرا «الشفاطات» التي نُصبت بعيدا وفي عمق الشاطئ لشفط الرمال في صور. هناك لم يذكر المواطنون المستفيد الرئيسي من الاعتداء البيئي الصارخ، والذي خلّف حفراً عميقة أودت يحياة العديد من السابحين الشبان. كذلك مصنع الاترنيت محمي سياسياً في شكا، يقتل البشر والحجر معاً دون سؤال، وقضى على الثروة السمكية في البحر.
عن الآبار الارتوازية حدّث ولا حرج. ثمة قانون يحدد الحفر بـ150 متراً، وما يفوق ذلك يلزمه مرسوم جمهوري! الحفر ينزل في التربة والبئر يجاور البئر ومرسوم الجمهورية في خبر كان. أما صورة الشاب المتجمد الخالي من أي مشاعر وهو يمسك بذاك الشريط الذي يغتصب الأرض ضربة تلو ضربة، عبّر بشفافية عن صلة السياسيين اللبنانيين ببيئة بلدهم في فيلم أبي سمرا. صورة موفقة لجهة التعبير. تليها صورة الشاب ال»معربش» على غابة اسلاك الكهرباء والهاتف في الاحياء الشعبية. كاميرا أبي سمرا التي انطلقت متهادية بين بحر يتعايش مع تلال النفايات، ومواطنين مأزومين دون ماء ولا كهرباء سنة 1995، لها أن تعرف أن النفايات تقترب من اسرتنا، وأننا مهددون بالويل في القريب العاجل. نعم صدق حدس أبي سمرا، فمن دمر لبنان في الحرب يمعن في تدميره في السلم وبأسلحة فتّاكة.
كثر هم اللبنانيون الذين بدأوا التصدي بشكل أو بآخر للإبادة الممنهجة للحياة والبيئة، من بينهم «الحملة الأهلية لإنقاذ دالية الروشة». تتشكل الـ»حملة» من إئتلاف بين مجموعات وأفراد تهتم بالحفاظ على امكانيات العيش في مدينة بيروت، حيث الشاطئ والمساحات العامة جزءاً منها. تقول عضو الحملة عبير سقسوق: تشكل الدالية جزءاً مهماً من هذا النشاط لأهميتها التاريخية والاجتماعية لبيروت وناسها. عملنا متنوع ومدني، مستمد من تخصصنا الدراسي الجامعي في الشؤون المدينية، الإعلام والفنون.
تعلن سقسوق التفاؤل بإمكانية انقاذ الدالية من خلال تشكيل رأي عام واستنهاض المجتمع الذي يملك قدرة الدفاع عن هذا المكان. لخطة العمل وجه قانوني، وإعلامي بهدف تشكيل رأي عام قوي. في هذا الجانب حققنا النجاح، فالرأي العام مهتم لأقصى الحدود بحماية الدالية. ونعمل لإيجاد اقتراحات متنوعة بكيفية حماية الدالية. لهذا أطلقنا مسابقة لتمكين سكان مدينة بيروت من المشاركة، بينهم مختصون وطلاب ومهندسون لاقتراح أطر قانونية للحماية. تقدمنا بطلب للقائمة الدولية للتراث العالمي، وهي منظمة غير حكومية تصدر كل سنتين لائحة تتضمن 50 موقعاً في العالم تصنف مهمة، ويجب الحفاظ عليها. صارت الدالية من ضمن تلك المواقع، وهذا يعني الاعتراف بأهميتها ليس محلياً بل اقليمياً كذلك. وفي ذلك حماية للموقع على مدى سنتين، ومن ثم هو يشكل ضغطاً على السلطات المعنية، فأي مس بالمكان سيتبعه حملة إعلامية عالمية كبيرة.
في كيفية تنشيط العمل شعبياً لدعم انقاذ الدالية، ترى سقسوق أن جمع صور قديمة تظهر علاقة المواطن بهذا المكان، ورسوخه في الذاكرة «كان جزءاً من عملنا. وبمجرد نشر صورة من الزمن القديم على صفحتنا الرسمية شكلت تفاعلاً وتعبيراً وجدانياً متضامناً مع حملة الدالية. كما زرنا رابطة أبناء بيروت في مقرها في الطريق الجديدة وشرحنا أهدافنا، ووجدنا الدعم الكبير».
وماذا في استحضار فيلم «إعمار على الموج»؟ «للتأكيد بأن الدالية ليست حالة فردية. بل هي من ضمن سياق كبير تُنتهك فيه البيئة والحقوق العامة. الفيلم يعالج بداية التسعينيات، وما نناضل لمنعه في الدالية هو نتاج تلك المرحلة من سياسات الإعمار. كذلك للقول أن العدوان على البيئة متواصل منذ ذلك الزمن. والنفايات حالياً واحدة من امتدادات الحرب الأهلية». هكذا تنهي سقسوق حوارها مع «القدس العربي».

زهرة مرعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية