على هامش «غزوة باريس الثانية»: شماتة واستغباء وغياب العتب

بدأت فرنسا عامها الجاري بهجوم إرهابي دامٍ أودى بعدد محدود من الأبرياء، وأنهته بهجوم إرهابي آخر أكثر دموية وفتكاً.
سال حبر كثير، وسيبقى يسيل إلى أن يحدث هجوم آخر في مدينة أخرى فيُنسي الناس باريس، كما أنستهم الأخيرة بيروت، وكما غطت الأخيرة على الطائرة الروسية المنكوبة في شبه جزيرة سيناء، وكما أنست الطائرة تفجيرات تركيا وما قبل قبلها.

(1)
طيلة الساعات والأيام التي أعقبت الهجوم، وما شهدت من نقاش سياسي وأمني وإنساني واجتماعي على كل المنابر الرسمية والشعبية، كان الكلام عن الإخفاقات الأمنية هو الأقل وتكراراً. غاب تماما جلد الذات واللوم والاتهامات بالمسؤولية. بل سمع الناس الذين تابعوا النقاش الداخلي في فرنسا إطراءً على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الفرنسية، واتجه النقاش إلى ما يشبه التسليم بالقدر كالقول إن هذا النوع من الهجمات وتعصب منفذيها وسعيهم للموت، يجعل منها أشبه بالقـَدَر الذي لا يمكن صده.
لا شك أن معنويات المجندين والموظفين في الأجهزة الأمنية في فرنسا مرتفعة بسبب هذا الحرص على عدم التعرض لهم واتهامهم ولو بالمسؤولية الرمزية. ولا شك أن آخرين في دول عدة يحسدونهم ويتمنون لو كانوا مكانهم.
لعل هذا يمكن أن يكون الدرس الأول مما يجب أن يتعلمه الآخرون من الغرب في اللحظات العصيبة والمواقف المؤلمة: أطفئ النار أولاً ثم اسأل عمن أشعلها. أترك محاسبة المقصرّين إلى الأخير. تذكر أن الذين قصّروا اليوم في حادثة بعينها، منعوا عشرات الحوادث قبلها.
كل هذا يتردد في فرنسا اليوم على الرغم من أنه تقصير أمني فادح يجب أن يتحمل مسؤوليته أحد.

(2)
هل شكل ما حدث بباريس مفاجأة، أم يجب أن يشكلها؟ نعم ولا.
عند عامة الناس، نعم، هي صدمة ومأساة سترافق 132 عائلة ما بقي من أعمارها، على الرغم من أن درجة التعاطف والعواطف المتدفقة من الآخرين تجاههم ستخف وتتراجع مع الأيام لأن وسائل الإعلام التي نقلت الصورة والكلمة عنهم للعالم، لا تنتظر ولا تصبر، بل ستوجه اهتمامها إلى حوادث ومآسٍ أخرى كما وجهت اهتمامها عن بيروت والطائرة الروسية وأنقرة.
لكن لو سأل امرؤ خبيراً أمنيا (خبير حقيقي وليس من «خبراء» الفضائيات) أو ضابطاً في جهاز مخابرات ما، ورد الأخير بصدق وأمانة، لكان الجواب: كنا ننتظرها.
بعيداً عن الاهتمام الإعلامي تعمل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية بلا توقف في مطاردة من ترى أنهم يهددون الأمن العام ويشكلون خطراً أمنيا.
فلا غرابة، إذاً، أن حفلت الصحف الفرنسية السبت والأحد وأمس بأخبار ومانشيتات من نوع: هذا ما كنا نخشاه. هذا ما توقعته أجهزة الاستخبارات. كان السؤال متى (ستقع التفجيرات) وليس هل (ستقع)؟
من آلاف المقالات والتقارير الصحافية، هذا الكلام هو الوحيد الذي ربما يستوقف المخبرين والجواسيس وقادة الشرطة الذين أصبحوا في عملهم يشبهون الأطباء الجرّاحين وتعايشهم مع الأجساد المُشّرحة والدم النازف.

(3)
عدنا إلى نكتة الجوازات على الرغم من الجو المثقل بالدم والأسى ورائحة الموت. هل يُعقل أن يصطحب انتحاري مقبل على عملية تاريخية من حجم ما وقع الجمعة، جواز سفره وكأنه متجه إلى نزهة في برج إيفل؟
هذا استخفاف فرضته، على ما يبدو، المعلومات الشحيحة، ودفع إليه البحث عن أقل التفاصيل وعن الإثارة. من الوارد جداً أن موضوع جواز السفر السوري الذي عُثر عليه في مسرح الجريمة في حفل «باتاكلان»، شكل موضوع نقاش على خطين متوازيين: الأول أمني والثاني إعلامي.
الاعتقاد بوجود استخفاف بالعقول تفرضه عدة أسئلة جديرة بالطرح، هذا أحدها: كيف للاجئ سوري وصل الشهر الماضي بعد رحلة شاقة أن يُقدم على تلك المغامرة الكبرى بسيارة وأسلحة فتاكة وسط عاصمة تستعد لاستقبال قادة العالم في قمة المناخ؟ ذلك أن عملية كهذه تحتاج لرجل يعرف باريس وتفاصيلها بشكل يحصِّنه ويوفر لديه شجاعة التنقل فيها بجرأة كما فعل انتحاريو مساء الجمعة. إذا كان أحد الانتحاريين حمل فعلا جوزاً سوريا في جيبه، فبالتأكيد فعلَ ليسخر من الجميع بعده ويضللهم. وما من شك أن الجواز مزور.

(4)
وعُدنا أيضا إلى فائض في الاستثمار السياسي لجريمة مساء الجمعة. العرب، منذ سنوات، بارعون في هذا، وكأنهم يتلذذون بالجيفة. كلما حدثت كارثة إرهابية في الغرب، صاحوا: حذرناكم.. نحن اكتوينا قبلكم!
الرئيس السوري بشار الأسد عجز عن إخفاء شماتته في الفرنسيين، متمنيا أن تطيل الهجمات عمره في الحكم ولو يوما واحداً أو تفتخ خرما دقيقا في أسوار الحصار المفروض عليه. وكالات الأنباء نقلت عن مصدر سعودي أن بلاده أبلغت الغرب بقرب وقوع هذه الهجمات. غداً سيقول مسؤول تونسي أو مغربي أو أردني أ، غيره إن بلاده حذرت فرنسا. حتى العراق الطائفي الفاشل وضع أصبعه في الجرة، وقال إنه حذّر من الهجمات.
واقع الحال هو الآتي: تستطيع أيّ دولة أن تبلّغ أخرى عن هجوم وشيك، وهي ليست مخطئة لأن الهجمات وشيكة باستمرار وفي كل مكان. إذا وقع، ستصرخ في العالم: حذرناكم ولم تحتاطوا. وإذا لم يقع، لا أحد سيعاتب تلك الدولة كأن يقول: لا شيء وقع.. ضللتمونا أو أربكتمونا بمعلومات خاطئة.
هذا بالذات ما يسمى الاصطياد في الماء العكر.

٭*كاتب جزائري

توفيق رباحي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نسيمة حرة - الجزائر:

    قد تأتي الأيام بالأجوبة و قد تبقى ألغاز ثم ننسى كل شيء

إشترك في قائمتنا البريدية