صدمة تونس أقوى من صدمة باريس

داخل إحدى قاعات وزارة الخارجية التونسية تجمع حشد من الإعلاميين ترقبا لوصول ضيف أجنبي «عالي المستوى» ما خفف وطأة الانتظار وجعل الحشد يتقبل على مضض تأخر انطلاق مؤتمر صحافي دعا له الوزير الطيب البكوش صباح الجمعة الماضي، في أعقاب جلسة مباحثات جمعته بنظيره الأمريكي جون كيري، هو أن قدوم ذلك الضيف المهم إلى تونس صار بمثابة الحدث البارز الذي لا يتكرر باستمرار، رغم كل تصريحات الإعجاب المفرط التي اعتاد على إطلاقها بين الحين والآخر، تعبيرا عن هيامه وولعه بالتجربة التونسية الفريدة.
وبالطبع كان المسؤولون عن البروتوكول على ثقة تامة بأن كلمة الضيف الأمريكي لن تخلو من عبارات الثناء والإطراء المعروفة. ولأجل ذلك اختاروا أن تظهر بشكل بارز خلف الوزيرين يافطة كبرى تحمل صورة نصفية لالفريد نوبل مرفوقة بالعلم التونسي، في إشارة واضحة إلى جائزة السلام التي حصل عليها رباعي الحوار الوطني، واعتبرت تتويجا عالميا لما وصف بالاستثناء التونسي. لكن أمل الصحافيين في الحصول على سبق أو تصريح مخالف للتوقعات خاب، بعد أن اكتفى كيري في كلمته القصيرة بترديد مقاطع دعم عاطفي جديدة لتونس التي وصفها هذه المرة بأنها» مثال يبعث على الإلهام» وأن «كل عيون العالم منصبة عليها»، قبل أن يبشر التونسيين الذين دعاهم لأن يكونوا «فخورين بالتزام البلد بالديمقراطية» بأن هناك وفدا أمريكيا سيصل خلال اسبوعين لمناقشة التعاون في مجال الاستخبارات، ويضيف أيضا بان الإدارة الامريكية تفكر في زيادة المساعدات التي تقدمها إلى تونس. ولانه كان مدركا أن هناك حالة من القلق والخوف داخل بعض الاوساط من تمدد تنظيم «داعش» من الجنوب، خصوصا بعد أن أكد رئيس الحكومة التونسية قبل اسابيع أن التنظيم بات على مسافة لا تتجاوز السبعين كيلومترا من الحدود مع ليبيا، فقد اختار كيري أن يقول بشيء من الصرامة والثقة في النفس بأن ايام ذلك الغول «باتت معدودة». هل كانت تلك رسالة طمأنة خاصة وحصرية موجهة للسلطات المحلية بعد أربع وعشرين ساعة من نشر مقطع فيديو منسوب إلى كتيبة عقبة بن نافع، وهي تنظيم لا يختلف كثيرا عن «داعش» واحتوى تهديدا مباشرا لكبار المسؤولين، وفي مقدمتهم رئيس الدولة ورئيس الحكومة والشيخ راشد الغنوشي، أم كانت استشرافا أوسع وأكبر نطاقا ومدى يتجاوز حدود البلد الصغير إلى محيطه الإقليمي المشوش والمشحون خرابا وفوضى؟ قد لا تكون الجهة المقصودة بالرسالة مهمة بنظر الكثيرين مادامت النتيجة في كلتا الحالتين واحدة، ومادامت تونس انضمت بشكل رسمي إلى تحالف دولي واسع تقوده أمريكا لمحاربة «داعش» وصارت تبعا لذلك معنية بما يجري حتى خارج حدودها من تطورات وخطط للتعامل مع ذلك الملف المعقد. لكن ما كان لافتا أن كلام كيري جاء بعد اربع وعشرين ساعة أيضا من تفجيرات الضاحية الجنوبية في بيروت، وقبل ساعات قليلة فقط من تفجيرات باريس، التي حصلت ليل الجمعة، أي عندما كان الوزير الامريكي في فيينا، بصدد مناقشة الملف السوري. النتيجة الفورية لذلك هي أن التنظيم صار العدو العالمي الاول لقوى الشرق والغرب على حد سواء، وهو ما أعلنته بوضوح قمة العشرين التي انعقدت في تركيا. أما ما الذي يمكن أن يعنيه ذلك لبلد مثل تونس يعيش هدوءا واستقرارا نسبيين في ظل ديمقراطية مهزوزة قد تحجب، ولو لوقت قصير، انحداره السريع نحو المجهول، فلا يملك التونسيون حتى الآن جوابا واضحا أو قاطعا، وكل ما تقوله لهم حكومتهم في أعقاب أي هجوم أو عمل ارهابي، إنهم يخوضون حربا مفتوحة ومستمرة ضد قوى تتربص بهم وبديمقراطيتهم الوليدة. من يحاربون بالتحديد، وكيف وبأي الطرق والوسائل؟ حتى الذين يملكون جوابا عن ذلك لا يرغبون لأسباب مختلفة بكشفه أمام الجمهور.
لكن الحقيقة الوحيدة وسط كل ذلك الضباب والغموض هي أن «تونس لا تستطيع أن تقاوم الارهاب بمفردها» مثلما ردد الرئيس التونسي اكثر من مرة. وما يعنيه ذلك صراحة، أن العدو ليس مجرد مجموعات مسلحة معزولة، بل قوة عالمية جبارة مادامت مواجهته تتطلب تحالفا دوليا واسعا، وليس مجرد تنسيق أمني واستخباراتي محدود، هل نحــن اذن بصدد حرب كونية تشن تحت سمائنا وداخل ارضنا، ولا حق لنا بمعرفة تفاصيلها أو خططها وأهدافها مادام المشرفون عليها يرون انها مفيدة لنا وتشن فقط لاجل عيون الديمقراطية وحقوق الانسان العزيزة جدا على قلوب الغربيين؟
لقد كتبت صحيفة «الشروق» المحلية في افتتاحيتها لعدد الاحد الماضي أن «معركة فرنسا هي معركتنا» و»يجب علينا التضامن مع الشعب الفرنسي في محنته والوقوف إلى جانبه وشد أزره لأن معركتنا واحدة ضد الجهل والظلامية والارتداد الحضاري». وجدد الرئيس التونسي الذي هرع السبت الماضي إلى قصر الايليزيه لتقديم التعازي لنظيره الفرنسي اولاند ساعات قليلة فقط بعد تفجيرات باريس. التأكيد على أن «تونس لن تدخر أي جهد لتكثيف تعاونها مع فرنسا في مواجهة الارهاب والوقوف إلى جانبها في هذه اللحظات العصيبة». لكن تلك الزيارة كلفته انتقادات حادة في الداخل، حتى أن استاذا في القانون الدستوري وناشطا سياسيا بارزا ذهب إلى القول بانه لن يعترف بعد اليوم بشرعية السبسي، وسيتمرد على حكمه. أما السبب فهو أن الرئيس فضل السفر إلى باريس لمواساة وتعزية رئيسها ولم يكلف نفسه عناء التنقل إلى ريف سيدي بوزيد الذي شهد في اليوم نفسه عملية قتل مريعة قامت بها إحدى المجموعات المسلحة واستهدفت صبيا كان يرعى غنمه بأحد الجبال وذلك بفصل رأسه عن جسده وارساله في كيس مع احد الصبية الذين كانوا يرافقونه.
لقد كان مشهد رأس الفتى المقطوع والمعروض في كيس داخل ثلاجة منزله، الذي نقلته مواقع التواصل الاجتماعي وحتى نشرة اخبار التلفزيون الرسمي صادما للتونسيين، ولكن التركيز الاعلامي المفرط على تفجيرات باريس جعلهم مشتتين ومنقسمين في ردات فعلهم ومشاعرهم. ومن الغريب فعلا أن طيفا واسعا مما يطلق عليه الانتلجنسيا أو نخب البلاد اظهرت تعاطفا لافتا مع فرنسا أكثر مما تعاطفت أو حاولت اظهاره من تعاطف مع ما حصل في ريف سيدي بوزيد، لانها ببساطة ترى أن باريس اقرب اليها من تلك المناطق القصية والمعزولة داخل تونس. انه ارتباط عضوي قديم يغلفه هؤلاء بتضامن انساني او قيمي ضد ما يصفونه جهلا وتخلفا وظلامية. والمشكل الذي تواجهه تونس انها عكس فرنسا لا تملك سلاحين مهمين لامتصاص الصدمات ومواجهتها وهما، الاستيعاب والفهم الجيد للديمقراطية ثم التحرك السريع لقواها الاجتماعية. فلا تزال الديمقراطية هشة ومشوشة في أذهان الناس، وهي غالبا ما تختصر في أمرين اثنين فقط، وهما الانتخاب وحرية التعبير وفقا للفهم والتقدير الشخصي للأفراد لحدود تلك الحرية ونطاقها. ولأجل ذلك لم يحصل إجماع وطني واسع لدى قادة الأحزاب داخل تونس على وضع تصور مشترك لمواجهة الارهاب أو طرق مجابهته وظلت الاحداث والتفجيرات وعمليات القتل التي تقوم بها الجماعات الارهابية بين الحين والآخر عنصر ضرب للوحدة الوطنية، وفرصة لنشر الغسيل الحزبي والفئوي والتشهير بتقصير البعض وتواطؤ البعض الآخر، وهو ما لم تعرفه فرنسا لسبب بسيط هو أن الفرنسيين يدركون لطول التجربة وتجذرها أن الديمقراطية لا تعني اطلاقا المس بأمنهم، كما انهم يحرصون في المقابل على التضامن الشعبي والفعلي فيما بينهم وقت الازمات، وهو ما لا يلحظ بشكل فعلي وملموس عند التونسيين. ولعل مشهد الجموع الغفيرة التي اتجهت صوب المستشفيات الباريسية للتبرع بالدم صباح السبت الماضي أو ما أقدم عليه سواق التاكسي ليلة التفجيرات من نقل الركاب من ملعب باريس إلى اماكن اقامتهم بالمجان يعطي صورة عن الفرق بين تلك المواقف العملية وبين ردود الافعال العاطفية التي تحصل غالبا في تونس بعد وقوع عمليات ارهابية، أما كيف السبيل بعد ذلك لتحسين مناعة التونسيين ضد الصدمات؟ فهذا ما لم يقله بالتأكيد لا كيري في مؤتمره الصحافي القصير ولا اولاند عند استقباله للسبسي الذي خف للاطمئنان عليه وعلى باريس من صدمة التفجيرات التي هزتها وهزت معها العالم بأسره.

٭ كاتب وصحافي من تونس

نزار بولحية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Hassan:

    أن يعيش الإنسان في تونس ولا تتوفر له أبسط مقومات الحياة في الألفية الثالثة فذاك هو إرهاب الدولة بجميع مؤسساتها ضد مواطنيها. مازال سكان مناطق الظل يشربون في تونس من غدير ماء المطر في حين أن الأمر لا يتطلب غير حفر بئر بـ ألفي دينار تونسي مع توفير مضخة بـ مأتي دينار وضخ الماء بطاقة كهربائية توفره لوحة شمسية وتجميعه في صهريج ثم بحنفية. المسؤول الجهوي والمحلي من المفروض أن يعلم بنقائص كل منطقة ريفية لكن كل واحد منهم قد انتفخ بطنه بأموال الشعب بالتحايل على القوانين مع انعدام المراقبة والمتابعة. جهلول على وزن فعلول قرر زيادة انتشار الجهل في الأرياف التونسية ببرمجة بناء تجمعات تعليمية لتركيز أبناء الأرياف الذين طبيعتهم تقتضي تربية الماشية والرعي لذلك ينقطعون في سن مبكرة من الدراسة في حين أنه يكفي ظل شجرة لنشر المعرفة والعلم من قبل آلاف من المتخرجين من الجامعات التونسية ويتبجح ويقول لا يدرس إلا خريج الترشيح للمعلمين. لماذا لا يدرس ويساهم لتنوير العقول في المناطق المحرومة من تقدموا بملفات النيابات. الإرهاب آفة ساهم في نشرها المستكرشون من المسؤولين الذين لم تقع مساءلتهم من خلال الحكومات المتعاقبة ومع أباطرة الإعلام.

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    قال صلى الله عليه وسلم :
    ( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى )
    رواه البخاري (6011) ومسلم (2586)

    والسؤال هو :
    هل تداعى حكامنا للسهر والحمى على شعوبهم وقت الحاجة ؟
    أم أن الغريب أولى – فهم الأسياد

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول حسن الزين - بنزرت - تونس .:

    تنقسم النخبة التونسية الى أصناف ثلاثة.. صنف الفرنكوفونية التي هي أقرب الى فرنسا من تونس و ترى في دعمها للثقافة الفرنسية حداثة و تقدما.. و صنف أخر يعيش على عهد ما قبل هدم حائط برلين حيث أن الشيوعية سيدة الأنظمة.. و صنف أخير عروبي اسلامي ما زال يبحث عن تواجد حقيقي بين الحساسيات.. فصدمة باريس كانت قوية عند الفرنكوفونيين لا غير حتى أن أحدهم قال * كلنا فرنسيون * وهو تصريح لا يلزم الا قائله..

  4. يقول ناصح قومه:

    كان عقلاء العرب وحدهم من يعرف ان الستين سنة الماضية من حياة العرب كانت فرصا ضائعة و أن الحصيلة كانت و لا تزال فشلا تنمويا ذريعا في كل من اقطار النفط واقطارالفسفاط العربية على حد سواء ؛ لكن بسبب التعتيم المطبق و قصف وسائل اعلام الحاكم في كل قطر للأذهان بخطاب المعجزات التي يحققها فخامته\سيادته\جلالته\ على مدار الساعة حجبت الحقيقة عن أوسع الناس حتى اندلاع الانتفاضات العفوية.

    إن حالة الفقر المدقع التي كشفت عنها حادثة قتل جماعات العنف لراع يافع في قرية ريفية بين ولايتي القيروان و بوزيد لهي تسفيه حاسم لكل “المعجزات التنموية” المنجزة في عهدي كل من “باني الدولة الحديثة” و “صانع التغيير”. مهما كانت محدودية الموارد الطبيعية لهذا القطر فليس هو شاسعا (اقل من 164 مليون خطوة مربعة) بما يبرر بقاء مناطق منه في هكذا فقر مدقع بعد 60 سنة من “الاستقلال”. مصيبة اهل هذا القطر بعد الإنتفاضة التي اسقطت المستبد الثاني تكمن من ناحية أولى في بقاء نفس الخيارات والأدوات والشخصيات التي استعملها كلا الحاكمين في صناعة أكذوبتة التنموية ؛ و تكمن من ناحية ثانية في فشل من يدّعون التمرجع في بديل حضاري مغاير، ليس فقط في انتاج خيارات و برامح افضل و لكن اخطر منه في التخاذل والسكوت – باسم توافق مكذوب – على صنّاع الأكذوبة التنموية وهم يعيدون تسويقها في عقول الناس.

إشترك في قائمتنا البريدية