في كل مرة تنجح الجماعات الإرهابية باختراق منظومات أمنية معقدة ويفجع العالم بمدى الأذى الذي ألحقه هؤلاء القتلة بالأبرياء من المدنيين، ليوصلوا رسائل مغمسة بالدم للسياسيين، كما حدث في برج البراجنة وفوق سيناء والعراق وباريس، في ظرف أسبوع واحد تقريبا، يعود الحديث بقوة حول موضوعين أساسيين: جذور الإرهاب والبيئة التي ينمو فيها وازدواجية المعايير في التعامل مع الضحايا «وكلهم من الأبرياء» الذين تصادف وكانوا في مكان وزمان الانفجار أو الهجوم.
ولا يخفى على عين مراقب وأذن مستمع ملاحظة أن الدنيا تكاد تقف على رجليها عندما يكون الضحايا من الدول الغربية، بينما يمر خبر الضحايا من بغداد أو بيروت أو صنعاء أو مقديشيو أو غوما أو ميانمار أو كابل أو كويتا أو مستشفى الأهلي في الخليل أو غزة مرورا عابرا قد يستدعي أحيانا صدور بيان من الأمين العام للأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو من كليهما للتعبيرعن القلق وكفى.
إن دراسة حقيقية لجذور الإرهاب والبيئة التي ينضج فيها تساعد المجتمع الدولي في التخلص من الظاهرة أو احتوائها أو التخفيف من وحشيتها. من جهة أخرى فإن التعامل الانتقائي مع الضحايا وبطريقة تميز بينهم وتصنفهم حسب أجناسهم وأديانهم وأعراقهم يعزز الظاهرة ويؤدي بالعديد من الفئات المهمشة والمقهورة أن تتعامل بالتشفي أو اللامبالاة إذا كان الضحايا من الآخرين.
طرح موضوع الإرهاب أمام الجمعية العامة
في دورة الجمعية العامة السابعة والعشرين عام 1972، اقترح لأول مرة عدد من الدول الأعضاء من معسكر الدول الغربية إدراج بند «مكافحة الإرهاب» على جدول الأعمال، فقد شهد ذلك العام عددا من الأحداث الدموية، التي يمكن تصنيفها في خانة عمليات الإرهاب، خاصة استهداف وفد إسرائيل الرياضي في ميونيخ وخطف طائرتين واحدة تابعة للوفتهانزا الألمانية والأخرى لسابينا البلجيكية، وقيام عنصر من الجيش الأحمر الياباني بفتح النار في مطار تل أبيب مخلفا 28 قتيلا وارتكاب الجيش الجمهوري الإيرلندي عددا من التفجيرات الدموية في لندن، وغير ذلك الكثير. لكن دول العالم الثالث آنذاك رفضت هذا البند وأصرت على تغييره وإضافة فقرة للعنوان تتحدث عن «الأسباب التي تنشأ فيها هذه الظاهرة كاليأس والقهر والاحتلال». لقد كان جليا آنذاك أن ظاهرة الإرهاب بدأت تتسع، وأن هناك فئات عديدة تريد أن ترسل رسائل سياسية عجزت عن إيصالها بطرق سلمية فتلجأ للعنف، لما يثره من صخب إعلامي كبير كخطف الطائرات أو تدميرها أو أخذ رهائن من المدنيين أو الهجوم على أسواق ومنتجعات ومؤتمرات.
الاختلاف في تعريف الإرهاب
لقد بقيت مسألة تعريف الإرهاب موضع خلاف بين دول المعسكر الغربي والدول النامية، خاصة تلك التي عاشت تجارب الاستعمار والاحتلال. وكان الخلاف يدور حول أربع نقاط رئيسية:
– يجب أن يشمل التعريف إضافة إلى إرهاب الجماعات والتنظيمات والأفراد، إرهاب الدولة، حيث أن هناك دولا تمارس إرهاب الدولة وبطرق تكنولوجية متقدمة، فقتل الأبرياء بإطلاق صواريخ ثقيلة من الجو قد يكون أفظع بكثير من تفخيخ سيارة بمواد متفجرة. وهذا البند لم يكن مقبولا من الولايات المتحدة وحلفائها لسبب بسيط وهو حماية إسرائيل؛
– يجب أن يشمل أي تعريف جذور الإرهاب والبيئة التي ينمو فيها، خاصة الظلم والقهر والفقر المدقع والاضطهاد المحلي والاحتلال الأجنبي. والغرب كان يرفض هذا الجزء تجنبا للمسؤولية الأخلاقية، خاصة في موضوع الاحتلال.
– يجب أن يشمل التعريف إشارة واضحة تفرق بين الإرهاب والنضال المشروع ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي وقوى الظلم التي تضطهد الشعوب وتمنع عنهم حقوقهم في الحرية والكرامة وحق تقرير المصير، وهذا مرفوض أيضا كي تتمكن إسرائيل من إدانة أي عمل لمقاومة الاحتلال بحجة أنه إرهاب.
– يجب أن يشمل تعريف الإرهاب الجماعات المستنبتة محليا وليس بالضرورة فقط العابرة للحدود، وهو ما يرفضه الغرب وكأن الإرهاب من صنع فقراء العالم فقط.
لم تتفق المجموعات على تعريف الإرهاب. فتم ترحيل الموضوع من الجمعية العامة إلى مجلس الأمن الذي ينصاع لإملاءات الدول الكبرى، وهناك جرى فرض تعريف الإرهاب كما تفهمه الولايات المتحدة وإسرائيل والغرب عموما وهو «قتل الأبرياء وزرع الرعب في مجموعات بشرية من أجل هدف سياسي أو تحقيق تغيير في مسلك دولة أو جماعة أو قوة سياسية» بدون الإشارة للنقاط الأربع الآنفة الذكر. لكن السنوات الأخيرة شهدت عودة للحديث عن الجذور وتجفيف منابع الإرهاب، خاصة بعد حوادث 11 سبتمبر 2001.
لنتفق إذن على أن الإرهاب ظاهرة اجتماعية تظهر وتختفي، حسب معطيات سياسية واقتصادية واجتماعية أخرى تؤثر فيها وتتأثر، كي نستطيع أن نلقي الضوء على الأسباب الكامنة وراء الظاهرة التي انتشرت بشكل غير مسبوق في عالم اليوم، حتى لم يعد أحد يشعر بالأمان إن سافر أو دخل مطعما أو حضر مسرحية أو تنزه على شاطئ البحر. وكذلك يجب أن نخضع التعامل مع الظاهرة إلى مقاييس متوازنة ومتسقة، فأكبر ما يفاقم الظاهرة التعامل الانتقائي والتبرير الأحادي وإصدار الأحكام القضائية على جهة، والتسامح والتعامل بطريقة مغايرة تماما مع جهة أخرى ترتكب الفعل نفسه ضد المدنيين الأبرياء، وتحدث الضرر نفسه أو يزيد وتنسحب من الساحة دونما عقاب أو تقريع. فقتل مسلمي الروهنغا في ميانمار ومسلمي جمهورية أفريقيا الوسطى لا يثير الضجة نفسها والتنديد والتحرك مثل قتل الأيزيديين مثلا في سنجار.
الجذور التي يترعرع فيها الإرهاب
في جلسة مجلس الأمن التي خصصت لقضية جذور الصراعات وارتباط ذلك بإحلال السلام وتحقيق التنمية يوم الثلاثاء 17 نوفمبر الحالي، حدد الأمين العام للأمم المتحدة البيئة التي يترعرع فيها النزاع وينفجر عنفا وإرهابا. قال: «إن الصراعات العنيفة والتطرف العنيف في عالم اليوم غالبا ما نجد جذورهما في خليط من التهميش وعدم المساواة وسوء إدارة الموارد الطبيعية والتطرف والفشل في الحكم والإحباط والعزلة مع عدم توفر الوظائف والفرص».
وهنا لا بد أن نقسم مسؤولية التطرف والعنف والإرهاب إلى قسمين: مسؤولية داخلية يتحملها النظام، ومسؤولية خارجية يتحملها من يفاقمون ظاهرة الفقر والتهميش والحروب ودعم الطغاة وتسهيل بعثرة مواردهم الطبيعية.
المسؤولية المزدوجة
في عام 2008 كان هناك اربع حروب أهلية، واليوم نحو عشر حروب أدت إلى تشريد 60 مليون إنسان بين لاجئ ونازح، بحاجة إلى نحو 25 مليار دولار سنويا للأعمال الإنسانية. لقد عبر المتوسط هذا العام نحو 400000 مهاجر والنسبة الأعلى من المهاجرين والمشردين جاءت من دول مثل سوريا والعراق وأفغانستان والصومال وإريتريا ومالي. وهي دول تشهد صراعات محلية تسبب فيها حكام طغاة أو تدخلات أجنبية أو الاثنان معا. ومع اعترافنا بأن الوضع الداخلي الذي يمزج بين الفقر والفساد وانهيار مؤسسات الدولة وتفاقم الصراع هو السبب المباشر لهذا التشرد، الذي يغذي التطرف والإرهاب، إلا أننا لا نعفي الدول الغنية من هذه المسؤولية.
إن المساهمة في إقامة عالم مزدهر تسوده العدالة والمساواة والسلم يتطلب إعادة النظر في العديد من المسلكيات التي تمارسها الدول الغنية خدمة لمصالحهم والتي تساهم في مزيد من التهميش والفقر والقهر ومنها:
– إعادة النظر في المؤسسات المالية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. إن الأزمات المالية التي تتعرض لها الدول المتقدمة وتضارب أسعار العملة والذهب وأسعار الفائدة، تنعكس كلها سلبا على الدول النامية، ما يفاقم الفقر ويعطل برامج التنمية، فتضطر هذه الدول إلى الاستقراض. وبتراكم الديون وزيادة الفوائد تتدخل هذه المؤسسات وتفرض مجموعة من الإجراءات كإلغاء الدعم الحكومي على السلع، الذي يعمق مستوى الفقر ويدفع بالكثيرين إلى اليأس والإحباط وفقدان الأمل.
– الاختلال الفاضح في موضوع التجارة، حيث استطاعت الشركات الكبرى أن تقضي على الكثير من الصناعات المحلية في عصر رفعت فيه الحدود وهدمت جدران الحماية المحلية وأصبح الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية يتطلب إجراءات عديدة، أهمها إلغاء القيود على الاستيراد والتصدير والاستثمار، فيصبح البلد مشاعا للشركات العملاقة لامتصاص ما فيه من موارد وتعويم السوق بالبضائع الأجنبية التي تقتل أولا صغار التجار والصناعات المحلية.
– ما زالت هذه الدول تتعامل مع من يختلف معها من الدول النامية بمبدأ القوة أو التهديد باستخدام القوة، أو فرض العقوبات الاقتصادية أو تدبير الانقلابات أو التدخل أو الاغتيالات أو دعم جهات معارضة للنظام حتى لو كانت متطرفة. إن احتلال أفغانستان والعراق وحروب الدرون (الطائرات بدون طيار) والتدخلات الغربية في الصومال ومالي وباكستان واليمن وسوريا وليبيا تدفع بالعديد من أبناء هذه البلاد إلى التشرد واللجوء مما يوفر بيئة مثالية للتنظيمات المتطرفة لتجنيد الألوف من هؤلاء الشباب.
– إن الطريقة التي تتعامل فيها هذه الدول مع إسرائيل تثير الحنق والقهر والغضب والإحباط لكل عربي وكل مسلم وكل إنسان شريف عادل يحب الإنسانية في هذا الكون. إن حربا تشنها إسرائيل على غزة تستمر خمسين يوما تدمر فيها القطاع على من فيه تقتل الآلاف وتجرح عشرات الآلاف ومن بين القتلى 541 طفلا، ويمنع مجلس الأمن حتى من الاجتماع، أمر يثير أعصاب كل إنسان شريف. فكيف يتوقع العالم الغربي ألا يغضب أحد ولا يصاب أحد بالقهر والإحباط وحتى الجنون وهو يشاهد الولايات المتحدة تقدم المليارات لإسرائيل مكافأة لإعادة تصحيح العلاقات بين نتنياهو وأوباما. هذه هي إحدى أهم حاضنات الغضب التي يتغذى منها المتطرفون.
الشيء المؤسف أن الذين يستثمرون هذا الغضب هم من خطفوا تلك المعاناة والتهميش، كما خطفوا الإسلام وليسوا معنيين كثيرا بمعاناة الفلسطينيين أو بإقامة أنظمة العدل والحرية والمساواة، بل يعملون على بدائل أسوأ بكثير من حكم الطغاة لدرجة أن كثيرا ممن دعموا ثورات الحرية عادوا وتراجعوا خوفا من البدائل لا تخليا عن الحلم الذي قاموا من أجله وهو قيام نظام العدل والمساواة والتعددية وتداول السلطة وتمكين المرأة واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون. ذلك الحلم الآن مؤجل إلى أن يتم استئصال الخطر الأكبر الذي تمثله هذه الجماعات الهمجية الخارجة عن الإنسانية والقانون والتي قتلت من المسلمين مئات الأضعاف ممن قتلت من غيرهم وباسم الإسلام كذلك.
٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرزي
د. عبد الحميد صيام
لقد كان التحليل شاملا لمعنى الارهاب واسبابه واتفق معك في ذلك واضيف اضافة لذلك ان العالم اليوم ليس مجموع دول بل هو شركات تتمركز في الارب تدير العالم بحساب الربح والخسارة ولايهمها القتل والدمار وهذه الشركات هي منسبب الارهاب ويغذيه حتى تعود الارباح عليها من ناتج الدمار وما المساعدات التي تقدم لمعالجة ظاهرة الارهاب الا لتستمر في ابتزتز تلك الدول المنهكة واصبح حكام تلك الدول مجرد نواطير لااكثر همهم بقاءهم في مناصبهم فقط ولن يتغير الوضع الا اذا وعت الشعوب واسيقظت من نومها الطويل
مقال ممتاز..اتمنى ترجمته و نشره على اوسع نطاق
تحية للكاتب المحترم
مقال شامل ومتعدد الأوجه
لقد وضعت إصبعك على الجرح وشخصت أصل الداء
فألف تحية
مقال ممتاز ورائع، وتحليل جيد لنشأة الإرهاب وتغذيته من متخصص مدرك للواقع الذي يعيشه العالم، ويمكن أن أؤكد أيضا على أن العالم يُدَار الآن بطريقة مخابرتية تجعل الحليم حيرانا، وعندي شك كبير أن هذه المجموعات المسلحة داعش وغيرها صنيعة مخابراتية ساعد على نموها واستفحالها مناخ اجتماعي مضطرب.
شكرا دكتور عبد الحميد على هذا العرض الواضح . و بناء عليه فما دام أن تعريف مفهوم ” الإرهاب ” فرض في المنظمة الدولية دون الأخذ بعين الاعتبار مساهمة و طلبات دول العالم الثالث كالعالم الإسلامي ، فلماذا نستخدم مصطلحا لا يعنينا و نتهم بعضنا به ؟ لماذا نخضع في استعمال مصطلح الإرهاب للتعريف الغربي المجانب للحقيقة ؟ إذن فلنتوقف عن استخدام مصطلح ” الإرهاب ” .
مقال أكثر من رائع صراحة وسيكون له صدى قوي لو تُرجم إلى لغات أخرى لأنه يتكلم بلغة الأرقام والحقائق الثابتة بالأدلة والبراهين لذا فلن ينكره إلا من يدعم الإرهاب
أُجدد تحياتي لك دكتور/ عبدالحميد صيام