حين أرصد بعين الباحث في السرديات، باعتبارها علما، لا المسرودات الكبرى، بصفتها ميتا سرد، آثار حدث إجرامي إرهابي، كما وقع في باريس، أو بعد ذلك في سيناء، أو تونس، وما يقع يوميا في سوريا، والعراق، واليمن، وليبيا، أرى أن هذا الحدث تتولد عنه أفعال وخطابات متباينة تباين الشرق «الاستبدادي» عن الغرب «الديمقراطي». إن الحدث واحد: فعل إرهابي تضطلع به داعش، وتعبر عن مسؤوليتها عنه. لكن الأحداث المتولدة عنه، لأنه صار وظيفة مركزية، تقدم لنا صورا أخرى ووظائف أساسية تعبر كل منها عن آثار مختلفة. لست شاهد عيان على الوقائع هنا، وهناك. إني مثل الملايين يتابع ما يجري عبر صور القنوات الفضائية، ووسائط التواصل الاجتماعي. لكن الفرق شاسع بين تلك الصور التي نراها هناك، وما نشــاهدها متعلقة بالوطن العربي.
حادثة شارلي وباريس الأخيرة، على سبيل التمثيل، تبينان بما لا يدع مجالا للشك أن هناك تقاليد لغوية، وأخرى صورية تطبع الثقافة الفرنسية خصوصا، والغربية عموما، حين يتعلق الأمر بعملية إرهابية، يقتل فيها أبرياء، من لدن إحدى التنظيمات المتطرفة. تبدأ آثار هذا الحدث أولا من خلال عدسة الصحافي، ويتلوها مباشرة، بعد دقائق معدودات، خطاب رئيس الجمهورية، وهو ليس سوى استنساخ للخطاب الأمريكي الذي تلا حدث أيلول (سبتمبر) وقد صار «أنموطا» يحتذى، واجترارا لأسطوانته المشروخة. يركز هذا الخطاب على: أولا، أن الأمة الفرنسية، وقيمها الديمقراطية هي المستهدفة من وراء العمليات البربرية. وأن الأمة موحدة ضد من يتطاول على مثلها الخالدة ثانيا. وأنها، ثالثا، ستضرب بيد من حديد على المتطرفين. وتتوالى التصريحات والصور، وترتفع الخطابات الأخرى من «العالم الحر»، مستنكرة، ومنددة بالفعل البربري، ومقدمة إمكاناتها في التحقيق والمساندة. وأخيرا تبدأ رسائل التعزية والتنديد من الدول العربية. وتنشغل كل قنوات العالم بالحدث، وقد صار مركز الكون، و»أم الأحداث».
في صباح اليوم الموالي على الحدث، تقدم لنا القنوات صورا من مكان الحدث، وقد سُوّر بشريط، وامتلأ بالزهور والورود والشموع وبطاقات التضامن. ويتوافد المواطنون زرافات ووحدانا، وكل منهم يعتنق إكليلا يضعه على الأرض، أو يشعل شمعة بعد أن يثبتها في موقع الحدث الذي يصبح خلفية لمصوات ينقل شهادات الزوار عن الفجيعة، وآثار التأثر بادية على وجوه بدون مساحيق. وتكتمل الصورة، حين تمتد سبابة، لتزيح دمعة من تحت العين، محاذرة وقوعها على الأرض المضمخة بدماء الأبرياء. منظر لا يبعث إلا على الحزن والإدانة. يضعنا هذا الخطاب أمام ذات راقية تمثل القيم الإنسانية إزاء أعمال الآخر المتوحش.
بالنسبة إلينا نحن العرب والمسلمين، ألفنا القتل فينا حتى صرنا حين لا نقتل، نبحث عمن يقتلنا؟ منذ 1948، والفلسطينيون يقتلون يوميا، لكن لا الذات الراقية ولا القيم الديمقراطية تدخلت لوضع حد للآلة الجهنمية الصهيونية. منذ أربع سنوات والنظام السوري يقتل يوميا العشرات، أي ما يساوي ما قتل في حادثة باريس، لكن الضمير الإنساني لم يوقد شمعة، ولا ألقى وردة على قتيل؟ بل جاءت روسيا لتدعم العمل الوحشي الذي يقوم به النظام، فصارت شريكته في المذابح التي تحصد يوميا أضعاف ما وقع في فرنسا، ولا أحد استفزته أريحيته لرفع عقيرته بالقول بأن هناك أبرياء يقتلون. ويمكن القول نفسه عما يجري في العراق واليمن وليبيا ولبنان. بل إن فرنسا التي صارت ترى نفسها في حرب، تبادر في اليوم الموالي بأخذ «الثأر» من مدينة الرقة، فتلقي عليها آلات الدمار، وتكثر من طلعاتها غير مكترثة بوجود مدنيين سترهبهم طائراتها، لتضاعف من محنتهم وهم يعانون من سطوة داعش عليهم. وإمعانا في أخذ الثأر، توسع دائرة طلعاتها على أرض العراق. وتتوالى الاعتداءات على الأراضي العربية، ويحصل التوافق التام بين الشرق والغرب على تدمير ما تبقى باسم اجتثاث الإرهاب، والقضاء على داعش. هذا في السماء.
أما في الأرض، فتتاح الفرصة لتوسيع دائرة الطوارئ على العرب والمسلمين في المهاجر، وفتح المجال أمام اليمين المتطرف لإلحاق الأذى بهم، وتعريضهم للخوف والإحساس بالاضطهاد، وكأنهم شركاء في العمل الإرهابي، وليسوا ضحاياه، بل هم ضحاياه الحقيقيون إنهم يعاونون منه بشكل ثلاثي الأبعاد: ضحاياه باعتبارهم مواطنين، وما رأيناه في تونس دال على ذلك، ويعانون من هويتهم الثقافية التي «تجمعهم» بالإرهابيين، ويعانون من العنصرية التي تولد الإرهاب والتطرف.
وما بين السماء والأرض، فما دامت سحنتك شرقية، واسمك عربي، فأنت إرهابي مفترض، بدءا من تعبك من أجل الحصول على التأشيرة إلى المطارات الدولية. وما عليك غير معاناة الإهانة، والشعور بالمذلة ما دمت تختار الذهاب إلى فردوس «الديمقراطية»، ولا فرق هنا بين الباحث الأكاديمي، والعامل، والمريض…
هذا المواطن العربي، سواء في وطنه أو المهاجر، لا تذرف عليه دموع، ولا ينجز أحد بصدده خطابا رسميا، ولا تضاء على «مكان» ما له شمعة، أو توضع باقة ورد. فهو بلا مكان، وحتى زمانه ضائع بين «الواقع» و»المفترض». في الأراضي التي تحلق فيها الطائرات المتناقضة الهوى (العراق وسوريا)، ولا تخلف سوى الدمار الذي لا نجده سوى في أفلام الرعب التي تتحدث عن القيامة، ونهاية الكون؟ صارت أرض تلك القيامة واقعا فأين تقرأ الفاتحة، أو تقام صلاة الجنازة؟
حين يقع مثل ما وقع في باريس، يكون المواطن ذو الأصول العربية، أول متضرر من العمليات الإرهابية، ويصبح أول من يشار إليه بالبنان، ويمسي مستهدفا من لدن من يحمل الجنسية مثلهم فقط لأن «ملامحه إرهابية»، وتلقى عليه كل تبعات التطرف، فإذا هو بلا مكان: يطرده من بلاده الفساد والفقر والحروب، ولا يجد في «الفردوس» الديمقراطي غير التوجس والكراهية؟ أين زمانه؟ فذكرى ماضيه محطمة، وواقعه الحالي مهشم، ومستقبله بلا آفاق.
الإنسان العربي، والأرض العربية مستباحة أمام الجميع. ونحن من يبيحها للآخرين. جاءتنا أمريكا الرأسمالية لتهدينا الديمقراطية، فافتتحت التدمير والتقتيل، ولم تخلف وراءها غير ديكتاتورية الطائفة. وها روسيا الاشتراكية سابقا، تسير في ركاب الإمبريالية لتكمل ما بدأته الرأسمالية، وتجرب فينا قواتها، مدافعة عن مصالحها، باسم دعم النظام السوري الذي تدعي أن الشعب السوري هو من يقرر وحده مصيره. لكنها هي التي تقرر الآن مصير الأسد نيابة، بل رغم أنف الشعب الذي تعرف جيدا قراره منذ أول الأحداث الأولى لخروجه منذ أكثر من أربع سنوات، مطالبا فقط بإصلاحات بسيطة؟ ولذلك فهي لا تحارب داعش ولكن، بصورة أساسية، كل من يقول لا للأسد لأنه إرهابي.
ها فرنسا تشرع الباب نفسه تستكمل استباحة ما تبقى من الجسد العربي الجريح في العراق وسوريا، ليس دفاعا عن الديمقراطية، ولا عن الشعب السوري أو العراقي، ولكنها باسم محاربة الإرهاب، تسعى لأخذ الثأر من قتلاها على غرار ما كانت تفعل القبائل في العصور الخالية. كانت النصال تتكسر على النصال، وها قد صارت الطائرات تتكسر على الطائرات في أجوائنا، وبات التفاوض حول التناوب على إخلاء الأجواء لمقاتلة داعش، واستئصال الإرهاب، وممارسة قتل العشرات من الأبرياء يوميا، وتدمير البنيات التحتية.
الحدث السردي واحد. غير أنه بالنسبة إلينا لا يؤدي إلى إنتاج خطابات سردية كالتي تتم هناك. فمن قال إن المسرودات الكبرى ماتت، مات قبل أن يراها حية، تتكالب على الجسد العربي الجريح؟
كاتب مغربي
سعيد يقطين
أستاذي،
القضية معقدة جدا، وما تقدمتم به خير دليل. وبالفعل لا مكان للشموع ولا للورود هناك لأن النفس تهدر مجانا، ولا قيمة لها في مسقط رأسها. وأما الإرهاب فإنه يعرف نفسه بنفسه عربيا ومسلما… وأما العنصرية فمن الجانبين.
مودتي واحترامي أستاذي
تحياتي…مقال رائع أصاب كبد الحقيقة…وجاء في توقيت مثالي مرافق للأحداث ليعبّرمقارنة عن ( الظاهروالباطن ) في معادلة الصراع اللامتعادل للضحايا.وربطه بالسرد البكائي أزلاً كالربط بين الشرق والغرب جدلاً..نشكرك من الأعماق
أيها الكاتب الفذ سعيد يقطين…المدمن على الإبداع.
أصبت الحقيقة عينها ….كما نقول :” لكنّنا لا بواكي لنا “
ككل مقالاتك ، أستاذنا لجليل ، تصيب المكامن الجراح، ولانملك غير الغصص لواقع يتعقد ويتأهل لمرحلة مابعد سايكس بكو، أقرأها خريطة عربية بلا جنس عربي، وإن ظل سيكون في خدمة السيد الديقراطي….لعل حالات الإرهاب للأبرياء والتهجير والقتل الممنهج آخر التوضيبات والترتيبات لتنظيف المنطقة من جنس عربي تهاون في تحقيق مشروعه الحضاري، ,اخشى أن تكون آية الاستبدال نتيجة حتمية للفساد الذي عشنا عليه قرونا ” وإن تتولوا يستبدل قوا غيركم” أم تراها قانون الحياة الذي لايقبل الفراغ والفساد وهدر الطاقات والإمكانات، ولعل أقواها تراثنا بكل تنوعاته، تضحيات الأجيال المجاهدة، إيماننا بكرامة الإنسان وقيمة الحياة والتجربة التي أتيحت له…..
كل الشكر والامتنان لأستاذنا على مقالاته وحضوره الواعي في زمن عربي ضائع