أراد شاعر الإنكليز الأكبر وليام شكسبير مرة أن يقول لحبيبته أنت جميلة، فقارنها بـ»يوم صيف»، لأن يوم الصيف في إنكلترا نادر وجميل ودافئ، أما شاعر العربية الأكبر أبوالطيب المتنبي الذي كان يهوى إحدى البدويات، فقد قال عنها:
بدت قمراً ومالت خـَوط بانٍ وفاحت عنبراً ورنت غزالا
كان ناقد ماكر، يمقت شكسبير ولا يطيق برود الإنكليزيات، يكشف حقيقة أن الإنكليزية ليست دافئة، وأن شكسبير كان يكذب. أما المتنبي فقد كان يرى البدويات يشبهن الأقمار، غير أن هناك من قال إنه لا توجد أقمار، حيث تلوّح الشموس وجوه الرجال والنساء في بوادي العرب، فالمتنبي بدوره مثل شكسبير يكذب.
كان شكسبير يعلل لمبالغته بأن مهنته تقتضي أن يذهب بعيداً في الخيال، وأن يسوقه للناس، وكان صاحبنا المتنبي من أتباع مذهب «أعذبه أكذبه». ونحن بينهما نستعذب «الكذب الحلال» الذي «يخدع الغواني» على رأي أحمد شوقي، ويأخذنا إلى مديات بعيدة. إلى هنا والأمور حلوة، الشاعر يكذب في الواقع، لكنه يصدق عاطفياً وفنيا، والجمهور يتواطأ مع هذا «الكذب الفني الجميل» الذي خدع به الشعراء كثيراً من النساء، وذهبوا يعيدون إنتاجهن أقماراً في بوادي العرب، وأيام صيف دافئة في صقيع لندن. على كل كان شاعر الانكليز لا يرى فقط أن الشاعر يصنع عالما من الوهم، ولكنه كان يؤكد أن العالم الذي نعيش فيه، ما هو إلا خشبة مسرح كبير، نحن فيه كبار ممثلي المسرحية. وما دمنا نتحدث عن التمثيل فينبغي استحضار نوع من الممثلين الذين يؤثرون على سير الأحداث التاريخية، وأعني هنا الساسة، حيث يجب أن يكون السياسي «الناجح» ممثلاً ناجحاً، وبهلوانا بارعاً، كي يتمكن من مراوغة النقد ومخادعة الجمهور.
وكما خدع المتنبي إحدى سمراوات البادية بأنها قمر، يخدع السياسي الشعب، ويصنع بمعسول الكلام للجمهور البائس عالماً وردياً، ويعطيه فوق ذلك مفاتيح الجنة.
أذكر أن الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح قال لليمنيين، في أحد وعوده الكثيرة، إنهم على موعد مع إنتاج الكهرباء عن طريق «الطاقة النووية»، وروج لهذا الوعد أكاديمي يمني كبير، ذهب مع صالح ومع «الكهرباء النووية» مع الريح.
أذكر كذلك أن الرئيس السابق كان يحدثنا عن الحوثيين بأنهم «بقايا الإمامة، أعداء الله والوطن»، ولكنه اليوم بكل رشاقة نسي ما كان يقوله عنهم سابقاً، ويقول لنا إن «أعداء الله» قد أصبحوا – بعد جملة من المعالجات التي أجراها عليهم – «أنصار الله»، أما هو الذي كان الحوثيون يقولون عنه «رأس الفساد والسفاح»، فقد غدا عندهم أحد المجاهدين الذين يدافعون عن الوطن ضد «الاحتلال السعودي»، الذي جعل أحلامهم في السلطة والثروة في اليمن تتهاوى على وقع ضربات التحالف العربي.
صالح بهلوان في أحاديثه، يحلق بعيداً كشاعر يقول لحبيبته أنت جميلة كيوم صيف، والحوثي ممثل في تمعرات وجهه عندما يحدثنا عن قوى الاستكبار العالمي، والمسيرة القرآنية، وولاية علي وثورة الحسين، لكنه يتألق كثيراً عندما يمتدح «الخيارات الاستراتيجية»، كشاعر يتحدث عن قمر ساطع في جبين حبيبته السمراء.
وإذا كان الشاعر يكذب فنياً، فيما نحن نعرف أنه يعمد إلى «الكذب الاستعاري»، رغبة منه في الإدهاش والإمتاع، فإن السياسي ينتهج الكذب الكارثي الذي ينتهي إلى مصير توراتي.
عندما يقول السياب «عيناك غابتا نخيل ساعة السحر»، فهو إنما يعيد ترتيب طبائع الأشياء، ويعيد مــــزج عناصر العـــالم في صورة فنية، ونحن نقبل منه ذلك، ونستمتع بكذبــــه الجميل، لكن عندما يهتف عبدالملك الحـــــوثي مثلاً، «الموت لأمريكا، المــــوت لإسرائيل»، فنحن نعرف أنه كالشاعر يكذب، لكن كذبـــه هنا لا ينطوي على قيمة جمالية، كالكذب اللذيذ في قول السياب الذي موه عيني حبيبته بغابات نخيل العراق.
على أي حال، هناك علاقة ما بين الشاعر والسياسي، الشاعر يجيد صناعة الخيال، والسياسي يجيد بيع الأوهام. والسياسي كالشاعر، كلاهما يشتركان في حالة من العشق الذي يعبران عنه بشكل استعاري، الشاعر يعشق المرأة، ولا يوجد شاعر لم يقل فيها شعراً، والسياسي يعشق السلطة، وكل الساسة يخطبونها، ويدبجون الخطابات الاستعارية للتمويه على عشقهم الأبدي للسلطة بحبهم الخالد للوطن. وهكذا دمر بشار الأسد سوريا حباً فيها، واحتلت إيران العراق باسم الدفاع عنه، وخرج الحوثي من صعدة في أقصى شمال اليمن، إلى عدن في أقصى جنوبها للدفاع عن نفسه ضد «التكفيريين والدواعش».
بالمناسبة، يتفوق السياسي على الشاعر بقدرة السياسي على أن يجترح «الفعل الاستعاري»، بالإضافة إلى قدرته على ابتداع «القول الاستعاري». في 2002 شنت إسرائيل واحدة من أعنف عملياتها العسكرية ضد الفلسطينين بشكل إجرامي، مستعملة كل أنواع الأسلحة، واستمرت الحرب أياماً طويلة، ووضع الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات قيد الحبس في مقاطعة رام الله، والعرب كالعادة لم يحركوا ساكناً، وأذكر أن علي عبدالله صالح، خرج من صنعاء إلى الحديدة، معلنا اعتكافه في إحدى مزارعه، رافضاً مقابلة أحد، أو حتى الرد على التلفون، ومنقطعاً عن العالم، احتجاجاً على «المجازر الإسرائيلية ضد الفلسطينيين»، قبل أن نكتشف في ما بعد أن الرئيس تزوج في هذه الفترة، وذهب لقضاء أيام العسل في الحديدة، موهماً الناس بأنه معتكف احتجاجاً على استهداف الشعب الفلسطيني. هل مررتم بـ»فعل استعاري»، ممتزج بكثير من الدراما كهذا الفعل «الاستعراضي» الذي يندرج تحت فن الكوميديا التراجيدية إن جاز التعبير؟
وكان صالح يجيد الأفعال الاستعراضية، وكان يلح على فتح «الحدود للمجاهدين للالتحام مع العدو الإسرائيلي»، ومرة تبرع له الرئيس المصري السابق بأرض في سيناء ليأتي صالح وجيشه، و «ورينا شطارتك»، على حد تعبير مبارك، ومن يومها بلع صالح لسانه، ولجأ إلى أساليب الاعتكاف «في الحديدة».
الحياة جملة استعارية فيما يبدو، وهذا العالم مجاز كبير واستعارة ركيكة، يغلف السياسي معانيه بلغة استعارية، ليتخلص من الوقوف عارياً أمام الجمهور، كالشاعر الذي يسلك مسالك المجاز ليعرض أفكاره في ثوب من الكلمات والصور. وإذا كانت أهداف الشاعر من «الأداء الاستعاري» هي أهداف جمالية خالصة، فإن أهداف السياسي من هذا الأداء هي أهداف سياسية خالصة، والجمهور بالطبع يصفق لـ»الكهرباء النووية في اليمن»، كما يصفق للأقمار التي تتدلى من جبين بدوية سمراء، والمسرح يتسع وصرخات الجماهير تمتد «فقاعات صوتية» في البلاد الممتدة من الماء إلى الماء.
٭ كاتب يمني من أسرة «القدس العربي»
د. محمد جميح
الدكتور يتهرب من الكتابة عن اليمن والمشاكل بين عبدربه منصور هادي وبحاح وعن الفوضى التي سـببها حزب الاصلاح والقاعدة وعن ورطة السعودية وفشل عاصـفتها!!!
كلامك حق يا السوداني !
الشاعر يكذب ويعرف الناس كذبه
السياسي يكذب ويعرف الناس انه يكذب
ولكن اخطر الناس كذبا رجل الدين والاعلامي اذا كذبا !!!
العجيب انهم مازالوا يقولون التحالف العربي اربع دويلات خليجية زائد السودان وموريطانيا اصبحوا يمثلون العرب فاين العراق وسوريا والجزائر والمغرب وتونس وليبيا ومصر والاردن وسلطنة عمان