أنجبت روسيا مجموعة من لاعبي الشطرنج الأسطوريين، ولكنهم كانوا كلاسيكيين للغاية، يلعبون بطريقة منظمة، ذلك ما لاحظه الأمريكي بوبي فيشر، وبكثير من الفوضى أربك خصمه السوفييتي بوريس سباسكي ليدفعه إلى حافة الجنون، وهو يهزمه المرة بعد الأخرى، من خلال مجموعة من الحركات التي لا يمكن وضعها في نسق منظم، وكانت خطة فيشر تقوم على نقل وتيرة اللعب بعد حركة غير متوقعة، ويمكن وصفها بالغباء من قبله، ولكن الغباء المصطنع أزعج سباسكي لأنه كان يخرجه من تراتبية الاستراتيجيات التي يصوغها في رأسه.
الأمريكيون استطاعوا أن يطبقوا هذه المناورات طويلاً مع السوفييت، وأوقعوهم كثيراً في أحابيل التخمين المفرط لتحركات الأمريكيين التي لم تكن أكثر من (أكشن وشغل سيما)، حرب النجوم كانت خيالاً أمريكياً جامحاً صدقه السوفييت وطاردوه متعبين لدرجة الاستنزاف، ولكن الروسي الساذج لم يعد إلا جزءاً من ذكريات الحرب الباردة، فالمتقاعدون من الأجهزة الأمنية تحولوا إلى زعامات مافياوية، والعقول العلمية في أكاديميات موسكو تخصصت في غسيل الأموال، وتحليل مزاج الأسهم والسندات، وبوتين ليس مجرد قائد سياسي، ولكنه تمثيل للروسي الجديد المختلف في عصر يراه الروس مناسباً للخروج من معاطفهم الثقيلة والتمرد على خطواتهم الحذرة.
الكاوبوي الروسي خلطة جديدة أمام الأمريكيين، فبوتين الذي أخرج قمة المناخ الأخيرة في باريس عن كل مسارها، وحولها إلى استعراض سياسي استولى على نجوميته، تلاعب بجميع الحقائق بدون أن يبدو أدنى أثر للارتباك أو التوتر الانفعالي على ملامحه، فهو يجعل سقوط الطائرة الروسية مقدمة لمرحلة جديدة من الصراع في سوريا، بحيث تصبح السنوات السابقة المثقلة بمئات آلاف الضحايا مجرد مقدمة موسيقية للسيمفونية الوحشية الجديدة، ومنحها بوتين مسحة الملحمة قبل أن يغادر إلى باريس، وهو يخلع على جثمان الطيار الذي أسقطته النيران التركية صفة بطل الحرب.
لقد تحولت الحرب في سوريا من تدخل عسكري روسي يمكن أن يجلب على بوتين الكثير من الانتقادات الداخلية، إلى حرب مقدسة يجب على الروس أن يستغلوها من أجل تأكيد هيبتهم في العالم، والخصومة مع أردوغان، وهو الشخصية الصاخبة والكاريزمية يعطيه فرصة أن يجعل الكبرياء الروسي دائماً معرضاً للخشونة التركية وأن يجعله يمسك بالمبادرة التي بدأها مع إطلاق مجموعة من العقوبات الاقتصادية الموجعة على تركيا، بالإضافة إلى تجاهله لدعوة أردوغان للقائه في باريس، وتجنبه أن يجتمعا حتى في الصورة التذكارية للقمة المناخية، ذلك كان كافياً ليستحث الإعلام الفرنسي والعالمي لمطاردة الأفكار التي تجول في خاطره ومحاولة استقراء نواياه، ولكنهم للأسف وقعوا في فخاخه التي ستجعل العالم يترقب مزيداً من المفاجآت في الأسابيع المقبلة.
يدين بوتين تركيا ويعرض لمعلوماته حول تهريب نفط «داعش» عبر أراضيها ليتم شحنه بحراً، ويجعل غاية الأتراك من إسقاط الطائرة التركية التستر على هذه الفضيحة، ومع ذلك، فهو يرى أن القرار اتخذ بمعزل عن أردوغان الذي يحتاجه بوتين من أجل استفزاز المتحمسين في الكرملين وغيره، وبحيث يعطي لنفسه صورة عقلانية كان يحرص عليها أثناء مؤتمره الصحافي، ففي النهاية يريد أن يتبع بوتين سياسة تقوم على الغموض مقابل استثارة خصومه ليجعلهم مرة أخرى في موقع الفعل، بينما يتخذ فرصته للحصول على الموقع المناسب له في تحديد نوعية ومدى وتأثير الرد الذي يحتفظ به.
يتلاعب بوتين بترتيب الأحداث، ويرقص بمهارة في المساحات الرمادية، وفوق ذلك يحاول دغدغة العواطف، مع أنه لا يمتلك عينين مؤثرتين مثل كينيدي أو كلينتون فإنه لا يتردد في مشاغلة الفرنسيين، مؤكداً أن طياريه كانوا يكتبون هذا من أجل ضحايا باريس على صواريخهم بمحاذاة ما يكتبونه عن الانتقام للطائرة الروسية التي تعرضت لإرهاب «داعش» في سيناء، وبصورة توحي بأن روسيا حسمت أمرها في موضوع الحلول مكان إيران وتركيا معاً في المسألة السورية. أما دخول روسيا مكان إيران فنقلة يمكن تفهمها على أساس التزاحم بين مصالح الطرفين، فهما يتسابقان في الاتجاه ذاته، ولكن أحداً لا يرغب في أن يعطي للآخر فرصة الوصول لخط النهاية أولاً، أما إزاحة تركيا من موقعها بدعوى عدم صلاحيتها أو أمانتها في حماية مصالح حلفائها، فذلك يعني أنه يعلن نفسه الشهبندر للبازار السياسي الذي شهدته باريس، وأن على من يريد تحقيق مصالحه أو حمايتها أو ضمانها أن يخاطبه أولاً، وأن يؤدي له الثمن الذي يرتضيه، فهو ليس معنياً بالمستقبل الشخصي للأسد، ولا حتى بالبقاء على مقربة من مياه المتوسط، فروسيا تمتلك قوات بحرية يمكن أن تحمل مدناً بأكملها، والإبقاء على قاعدة عسكرية على الساحل السوري لا يستدعي كل هذه التضحيات والتكاليف في مرحلة هبوط أسعار النفط والمتاعب الاقتصادية الروسية المتعددة.
يتطلع بوتين للاستحواذ على صفقة ثمينة بعد أن أرهقت جميع الدول التي تتجاذبها، يقتنصها لنفسه ويعيد إنتاجها وفق شروطه الخاصة، ولذلك، فإنه لم يغلق الباب في وجه السعوديين الذين تحصلوا على صفقات عسكرية ليسوا في حاجتها على المستويين الميداني والاستراتيجي، وفوق ذلك، وجدوا الفرصة في ظل علاقات مشتعلة نظرياً بين لافروف والجبير، لأن يعقدوا واحدة من أكبر الصفقات الاستثمارية مع الروس، وبالمناسبة، فالسعوديون لن يذهبوا إلى موسكو بأموالهم هذه المرة، ولكنهم سيستقبلون إسهاماً روسياً في الاستثمارات النوعية في السعودية، وبما يعني اقتحاماً غير مسبوق لما اعتبر دائماً امتيازاً أمريكياً خالصاً، مع بعض العطايا الأمريكية للحلفاء في أوروبا الغربية.
تركيا اليوم مضطرة لترتيب أوراقها من جديد، فالطائرة التي أسقطتها ستكون الذريعة لروسيا لمزيد من التدابير للسيطرة على الشريط الحدودي مع تركيا، وكان ذلك ليلاقي معارضة شرسة بدون حادثة الطائرة، واليوم، فإن روسيا ستمتلك القدرة على إعادة ترسيم الوقائع في المنطقة، وربما التلويح بورقة كردية في مواجهة تركيا وزيادة معاناة تركيا التي ستجد نفسها مضطرة للتعامل مع تركة «داعش» بصورة منفردة، فبعد أن بدا «داعش، ولو لوهلة، أمراً واقعاً يمكن أن يعتبر بصورة أو بأخرى طرفاً في تفاوض حول مستقبل سوريا، أصبح مؤخراً إصبع إتهام يوجهه الجميع إلى الجميع.
موسكو تمكنت من اختطاف الأضواء في الأسابيع الأخيرة، بحيث فقدت واشنطن موقعها محجاً سياسياً للعالم، والرئيس الأمريكي يرتحل اليوم ليعقد لقاءات مع بوتين وغيره، فالواقع أن أوباما ليس لديه ما يقدمه ولياقته السياسية والفكرية أيضاً في أدنى مستوياتها، ومن يدخل البيت الأبيض ولديه مجموعة من الأسئلة، فإنه يخرج بدون إجابات وبأسئلة جديدة تزيده حيرة واضطراباً، ومع أن موسكو لا تملك هي الأخرى أي إجابات، وتطرح أسئلتها الخاصة، إلا أنها في النهاية تستطيع أن تحرك الواقع بما يعطيها صورة صاحب الخطة على الأقل، والمستبقي بين يديه على قليل من الحيلة وبصيص من الرؤية.
تختلف عصبية رقعة الشطرنج عن عبثية طاولة الروليت، ولكن الحظ له أهمية قصوى في اللعبتين، وبوتين رجل لا ينقصه الحظ، فصواريخه التي تحمل رسائل الانتقام لضحايا باريس وتضع هيبة فرنسا على أجنحة السوخروي، تتعزز سياسياً بتردد بريطاني عن تقديم الدعم الملموس والميداني للفرنسيين، وكأن باريس هي الأخرى ستجد نفسها في حلف يتشكل من المشتتين والتائهين حول رجل يعطي مظهره قدراً من الثقة والإصرار، وهذه أيضاً سمات تعطي أثرها بين مربعات الشطرنج وخانات الروليت على السواء.
٭ كاتب أردني
سامح المحاريق
أحسن مقال قرأته منذ شهور
شكرا للكاتب ألأردني سامي المحاريق
قريبا ستبدأ الطائرات الروسية بالتساقط من قبل صواريخ الثوار بسوريا
فالثوار عملوا مسرحية تصنيع صواريخ الأرض جو لكي لا يحرجوا تركيا
بمعنى أن الصواريح قد وصلت بالفعل للثوار بإنتظار الوقت المناسب لإطلاقها
ولا حول ولا قوة الا بالله
إن شاء الله تكون سوريا مقبرة للروس