رغم أن البعد الرمزي في جائزة نوبل للسلام يغلب على أي بعد آخر، فإن للرموز مهامها في شؤون الأفراد والشعوب. صحيح أن «المجتمع الدولي» لا يزال مكتفيا، منذ اندلاع الثورة الشعبية قبل خمسة أعوام، بالثناء على تونس وإحاطتها بمظاهر التكريم والتقدير، أي أنه لا يزال مكتفيا بمجرد الكلام عما يسميه «نجاح النموذج التونسي» في الانتقال الديمقراطي. وصحيح أن هذا المجتمع الدولي لم يبذل حتى اليوم أدنى جهد في مجال المساعدة الفعلية لتونس – ناهيك عن تخصيص صندوق استثمار من نوع «خطة مارشال» لإعادة إعمار ما نهبه الفساد وخربه الاستبداد.
ولكن الصحيح أيضا (رغم ما يبدو من اقتناع «العالم المتحضر» بأن التصفيق من حين لآخر هو الموقف الكافي والوافي نحو «تونس الصديقة»، حسب تعبير فرنسي شائع رسميا وشعبيا) أن العالم الغربي مدرك لإيجابيات التجربة التونسية، ومدرك لمصلحته المباشرة في أن تنجح التجربة وفي أن تنسج بلدان عربية أخرى على منوالها. إذ لم يكن ما قيل في أوسلو، الخميس، بمناسبة تسليم جائزة نوبل للسلام للرباعي الراعي للحوار الوطني التونسي مجرد كلام مناسباتي. بل إن رئيسة لجنة نوبل لاسي كولمان فايف قد استعرضت تاريخ تونس القريب على نحو يثبت درجة عالية لدى القوم من القدرة على الاعتبار السياسي. حيث قالت إن هذا التاريخ أثبت، منذ 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010، أن «الجموع أقوى من الملك».
ووجهت كولمان فايف تحية إلى الاتحاد العام التونسي للشغل، والمنظمة التونسية للصناعة والتجارة، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وعمادة المحامين التونسيين لمسعاها الجماعي الذي اضطلعت فيه بدور «الوسيط» و»المحرك» الديمقراطي. ذلك أن هذا الرباعي، المتألف من منظمات مدنية (غير سياسية)، قد كان له الفضل في إنقاذ مسار الانتقال الديمقراطي بعد أن أدى، من فرط هشاشته وعشوائيته، إلى تراكم سحب الفتنة الشاملة ونذر الحرب الأهلية عام 2013 في سياق تعمق عوامل التخندق السياسي و»الكراهية المقدسة» بين فريقين. بل إن العداء بين الفريقين بلغ حدّا بدا معه كأن البلاد ليس فيها شعب واحد، بل شعبان اثنان «لا يلتقيان، وإذا التقيا…».
وقالت كولمان فايف إنه «ما على الذين يزعمون أن الإسلام والديمقراطية لا ينسجمان إلا النظر إلى تونس»، وأكدت على أهمية ما تميزت به التجربة التونسية من إيجابيات، مثل التداول السلمي على السلطة، وحيوية دور المرأة ويقظة المجتمع المدني. أما مسألة المصلحة الغربية المباشرة في نجاح التجارب الديمقراطية في العالم العربي، فقد أوجزتها رئيسة لجنة نوبل بالقول «لو أن جميع البلدان (العربية) سلكت مسلك تونس (…)، لكان عدد المضطرين للفرار (من بلدانهم) أقل بكثير» مما هو الآن. ما من نفاق، إذن، في هذه النقطة المتعلقة بالمصلحة الغربية: هنالك ارتباط مباشر بين أزمة اللاجئين التي تعاني منها أوروبا وبين فشل الثورات العربية، أو ما درج القوم على تسميته بـ»الربيع العربي».
كانت كلمات المتوجين التونسيين الأربعة مقتضبة ووافية بالغرض، ولو أن كلمة رئيسة المنظمة التونسية للصناعة والتجارة كانت أقرب لإصابة الهدف. فقد أكدت السيدة وداد بوشماوي أن التونسيين مدركون لخطورة المشكلات والتحديات التي تواجههم، وأنهم واعون بأنه لا بديل عن الاعتماد على الذات. ولكنها أكدت أيضا على أهمية قدوم الاستثمارات الغربية لمساعدة البلاد في مجال تطوير البنى التحتية ومعالجة معضلة البطالة. وقد كان من البليغ، في المقابل، أن تعلن كولمان فايف أن النرويجيين فخورون بالدستور «الراديكالي» (أي التحرري) الذي سنه أجدادهم قبل مئتي عام، وأن تتمنى بالمثل للتونسيين أن يفخروا بعد مئتي عام بالدستور الذي سنه أجدادهم العام الماضي.
إشارة اسكندنافية وديّة تذكّر بما كان يقوله، إبان الاستقلال، الزعيم الحبيب بورقيبة عليه رحمة الله من أن ما يطمح إليه هو أن تحقق تونس التقدم الذي حققته السويد. كان يردد: ما المانع في أن ننجح كما نجح هذا البلد الاسكندنافي؟ كان في ذهن بورقيبة أن السويد ظلت، مثلها في ذلك مثل ألمانيا، بلدا زراعيا حتى أواخر القرن 19. أما الأهم، فهو أنه كان يرى أن الأمر كله منوط بالإرادة (وهو ما يسمى في الأدبيات السياسية الفرنسية بالعقيدة «الإرادوية») في سياقين متكاملين: سياق دائم من الوحدة الوطنية، وسياق متجدد من ثقافة العلم والعمل.
درس اسكندنافي ديمقراطي وتنموي مزدوج. درس لم ينته يا عرب!
٭ كاتب من تونس
مالك التريكي