قلما تحدثت مذاهب الفلسفة عن الأفكار باعتبارها كائنات تحيا وتموت كسائر (الموجودات) الأخرى. فالفكرة الحية هي تلك التي يعرض لها أو لبعض دلالاتها نص أو قول. وعندما لا يأتي ثمة ذكر على فكرة ما فهل ذلك يعني زوالها من الوجود. فالفكرة الحية هي التي قلما عفا عليها التداول العام. هل هذا يعني أن الفكرة قد ماتت بسبب غيابها. أو أن الأمر هو على العكس أي أن الفكرة قد تكون ماتت، لذلك فإنها غابت. هل يمكن تصور أن الفكرة مثلما تملكت حياتها فإنها قابلة للموت كذلك. هل نحن هنا في قبضة دوار منطقي عقيم، إذ ان السؤال عما إذا كانت الفكرة تموت كأنه يريد أن يثبت أن موت الفكرة ليس طارئاً عليها، أي أن «شيأه» الخاص لا ينفصل عن «شيء» الفكرة عينها.
ما الذي إذن يوفر للفكرة الحياة أو يمنعها عنها. ليس هناك أي جواب مباشر إلا ويرجع السبب في هذه الظاهرة إلى كون الفكرة مالكة أساساً للحقيقة أو أنها مفتقرة إليها. فأن تموت الفكرة، هذا معناه أن الفكرة فاقدة لجداوها. كأن وجودها وعدمه سيان. ولكن من سوف يحدد مثل هذه الأحكام؛ من له الحق في إصدارها كأحكام. هل هو العقل العمومي أو الفردي أو أنه مجرد الحدثان الموضوعي الذي قد يُسمى بالتاريخ بالعصر، بالظروف الراهنة المحيطة بنشاط الفكرة.
إذا عدنا إلى الاعتبارات الشائعة واجهنا الجواب المباشر؛ وهو أن حياة أو موت الفكرة تابعان لطبيعة الاهتمام بها ولدرجته المتغيرة بإيقاعه العائد إلى عوامله الذاتية. وتظهر هذه المعادلة جلية أكثر في مجال الفكر السياسي. إذ لا يمكن للفكرة هنا أن تنبع من ذاتها تلقائياً. لا بد لها أن تتجسد عبر نشاط فردي بل جماعي. وقد يقال أن هذه الفكرة أنها موجودة حية بقدر ما هي منتشرة. كأن انتشارها يمنحها مشروعية وجودها. بل أكثر من ذلك كأن انتشارها يقدم البرهان المباشر على مدى صدقيتها كذلك. كلما ازداد حجم القائلين بها تتصاعد معها صدقيتها إلى مستوى الإيمان، ومنها إلى مستوى الاحتياز على اليقين، ومنه حتى الانتهاض بها إلى التقديس.
هنا يعود السؤال إلى فخ الدور المنطقي (الفاسد)؛ حول ما هو الفاعل الأساسي بين طرفيْ هذه المعادلة، شهرةُ الفكرة أو حقيقتها. ولكن ألا يوحدّ الحسُّ العام عادة بينهما، ينظر إليهما متقاربين، أحدهما يقود إلى الآخر اعتماداً على الثاني القائل أن الاشتهار الإيجابي هو دليل الحقيقة، على عكس الاشتهار السلبي الذي ينفر من الخطأ، ينهي عنه ويأمر بزواله. إذ كلما اتسع نطاق الجماعة إلى صيغ الجمهور، فالشعب، فالأمة، وربما العالم، فإنه، يصبح من الصعب، بل من الاستحالة غالباً، الاعتقادُ أن الجماعات الكبرى يمكنها أن تتبنّى الأفكار الخاطئة وتتابعها حتى الكارثة النهائية. ومع ذلك فالتاريخ حافل بقصص مجتمعات أو حضارات عاشت على ضلالات هائلة، وقد يصحو بعضها قبل فوات الأوان أو بعده. وقد لا يعرف أكثرها كيف كان عليه أن يميز ما بين ضلالها أو صلاحها، وذلك قبل أن يحين زوالها.. ويبطل بعدها كل قول محايد عنها.
هل نقول إذن أن حياة أو موت الأفكار هو من حياة وموت الناطقين بها والمدعين لرسالاتها والمؤتمنين على وصاياها. ومع ذلك تقول تجارب التاريخ أن المسألة ليست في هذه السهولة دائماً. فليست الأفكار مرصودة فحسب فقط للألسنة التي ترددها أو الأقلام التي تكتبها. لا تفقد الفكرة استقلالها إلا بقدر ما تخسر من «حقائيتها» الذاتية. هذا لا يعني أن الأفكار مخلوقات أو كائنات قائمة في نصوصها، بل إن وضوحها وتميزها- هذا القياس الديكارتي العريق ـ هو عماد ثروتها المولودة معها. والعقل المفكر السليم هو القادر على جلاء بيانها الخاص، بما يعيد إبراءَه من تدخلاته هو عينه، وفقاً لظروفه السياسية، أو ضدها..
لكن تبقى المشكلة الأساسية وهي أنه لا خلاص من سلطة الأفكار، سواء استجاب لها الوعي العام أم رفضها أو تناساها، فهو يفعل ذلك باسم أفكار أخرى، يستخدمها ضد الأفكار السابقة التي يسعى إلى إلغائها. لهذا ابتكرت السياسة مفهوم «المصالح» بديلاً عن الأفكار. لكن التفكير يظل يجسد منطق المصالح رغماً عنه، أو بإرادته معه أو ضده. لكنه يظل هو الطامح أبداً إلى فهم المدنية لأحوال ذاتها، وليس فحسب الغرق في تقدير صراعاتها ما بين وحداتها السياسية المحتلة لخارطة العالم من حولها، بما يعني أن التاريخ لن يظل أسيراً منقاداً لمنطق المصالح متغافياً عن أنوار الأفكار.
لكن هل كانت المصالح عمياء بكماء عاجزة عن التواصل مع الأفكار، حتى إلى هذا الحد الذي تُنكر فيه، على ذاتها أن تكون طاردةً لفكرة أو مولدة لفكرة أخرى؛ وكما يحدث في المحصلة الأخيرة لمعارك الأيديولوجيا ومصارعها العبثية فيما بينها. أليست المصالح هي من «أشياء» الأفكار نفسها، رغم تجاهلها التقليدي المستدام. كأنما، لا تمييزَ نهائيٌّ بينهما.
لا يمكن لأحد أن يجزم أن المصلحة لا تفكر، أو أن الفكرة لا تدل على مصلحة ما أو تنهي عن سواها. بل ربما كان جهد المدنية هو أن تجعل كلاً من الطائفتين تترجم الأخرى. فما فشلُ صنفِ المدنيات الجائرة اليوم إلا تعبير عن عجزها في ابتكار صيغ التكامل بين وحداتهما.
إنه ذلك الفشل المتمادي عصوراً حتى بات أشبه بالحارس الأمين على نظام الأنظمة المعرفية المتداولة، بما قد يوحي إلى نُخَب العالم، إلى بعضها القليل النادر أحياناً، بأن يعلنوا يوما ما أن الحقيقة يمكن أن تموت حتى قبل أن نعرف بموت كل نظام معرفي كان ناطقاً باسمها أزلياً تقريباً. وفي هذه الحالة لن يتبقى ثمة نظام آخر ناجياً بنفسه وحدها، ليخبر عما حدث للحقيقة وأنظمتها كلها معها يوم أن كان كوكب صغير لامع يعبر في مدار مجهول من عالم الفضاء الأكبر، وكان اسمه أرض البشر.
نقول هذا ونحن نتابع أعمال المؤتمر الأكبر للبيئة المعقود في باريس، والذي شاركت فيه دول العالم كلها تقريباً. وكان موضوعه الأول هو سؤال الأسئلة كلها، هل ثمة بقاء للجنس البشري على وجه هذه الأرض المهددة هي نفسها بالزوال المحتوم بأفعال الإنسان عينه الهدامة.. هل استطاع هذا المؤتمر أن يقنع زعماء الدول هؤلاء أن الحياة على هذا الكوكب الصغير ليست أبدية. بل إن مصيرها حتى اليوم يتعلق بأبنائها البشر إلى حد ما، إلا أنه لن يبقى هكذا إلى مالا نهاية..
نعم إن الأفلاك والكواكب تحيا وتموت. وكوكبنا لن يخترق هذه الحقيقة. لكن فكر الإنسانية هو المسؤول وحده عن تعيين (تحييّن) ساعة الزوال الأخيرة. وإذا كان ثمة مغزى تاريخي لهذه العلاقة الالتباسية، فهي إنها لم تكن علاقة تضامنية بين حدي المعادلة الكونية، بين الحامل والمحمول، بين الأرض والبشر، بين الطبيعة والتاريخ، ذلك أن أحد القطبين، وهو تاريخ الإنسان، كان غادراً لكينونة الثاني، أي الطبيعة.
لقد منحتنا الطبيعة نحن البشر كل وسائل الوجود والتقدم والقوة والكمال. ونحن رددنا عليها بكل أسباب التدمير والتسميم والتصحير.
فظائع المشرق هي الترميزة الكبرى الكاشفة عن فضيحة المدنية الكاذبة. ليست هي فقط مجرد هياكل شيطانية لحرائق جثث الأفكار الحضارية المقطعة الرؤوس بمناجل أصحابها أنفسهم، بل هي الموروث كله المسمى بأرض البشر القبيحة هذه التي باتت هي البديل القاهر والمعربد عن ارض الشمس والقمر، الحب والحرية والعدالة.
ما بين المؤتمر الباريسي العالمي الذي يحيي مآتم الأفكار المدفونة تحت بوارق من المصالح الموتورة، وبين مسالخ المحرمات التاريخية جميعها الغازية للشام وللرافدين يتصاعد سؤال يتيم باحث عن المتخلّفين الأخيرين ما بعد الكوارث الراهنة، إلى أن يحين موعد المأتم الأعظم لذاكرة الفظائع يوم تنطفئ شمس الأرض في أقصى رواية فضائية مجهولة.
٭ مفكر عربي مقيم في باريس
مطاع صفدي