أثناء ندوة حوارية، في معرض الكتاب في الدوحة منذ أيام، سألني واحد من الذين هاجروا من أوطانهم باكرا، وعاش زمنا في أمريكا، ثم انضم مؤخرا إلى جهة عمل في دولة خليجية، وصادف أن حضر تلك الندوة الحوارية التي شاركت فيها، سألني سؤالين أعتقد شخصيا في جدواهما، أولا: هل كانت كتابتي ستختلف عما هي عليه الآن، لو كنت أقيم في الغرب؟ وثانيا: ماذا تفعل الهجرة في المبدع عموما وفي الكاتب خاصة؟ هل سيظل هو نفسه ابن الوطن الذي خرج منه؟ أم ثمة اضطراب لا بد يحدث ويؤدي إلى تغير ما؟
بالنسبة لسؤال التشابه والاختلاف، مع الوجود هنا أو هناك، داخل دولة عربية، أو داخل الوطن، أو الوجود خارجا في بلاد لا تسأل أحدا عن شيء، فرأيى الشخصي، أن الكاتب إن كان ملتزما بالأعراف العامة، ويحترم تقاليد المجتمع الذي يعيش فيه، ولا يستخدم اللغة التي ليست أدبية بقدر ما هي لغة طريق ضالة، فهو كذلك حتى لو عاش في جزر العري. والذي ينوي كتابة المشبوه والعاري، والخارج عن الأسس، يمكنه أن يفعل ذلك في أي مكان، حتى لو كان داخل سجن. بمعنى أن ثمة قناعة شخصية عند المبدع، وفيها الرقيب الشخصي الذي يمرر جملة معينة، ويقص أخرى في الذهن، يسمح بلقاء حبيبين كانا في حالة فراق واجتمعا أخيرا، ويقص ما سيحدث بينهما في لقاء أكثر حميمية، يوافق بكل سرور على مناقشة الأفكار الطائشة والمتعقلة، ولا يسمح إلا بانتصار العقل على غير العقل، وإن كان ثمة زخم سياسي، أو انتقاد لسلطة بلده، فالرقيب الشخصي يوازن الأمور ولا بأس من النقد البناء غير الجارح أو غير المهاجم.
هذه ناحية، وتأتي ناحية أخرى يمثلها الرقيب المستهتر، الذي ربما يتجاهل قبلة بريئة عابرة بين حبيبين رومانسيين، ويسعى لتأطير المشاهد الخادشة، بكل ارتياح، الذي تسوؤه لغة الحوار الدافئة داخل بيت في مجتمع محافظ، فينقل الحوار برمته إلى الشارع ليكتسي بتلك الصبغة الشوارعية.
هذا الرقيب يظل موجودا داخل كل كاتب، يعيش في حياة الكاتب وبالطبع يموت بموته، وبذلك فهو موجود مع الكاتب في السودان مثلا، ويهاجر معه إلى أوروبا أو أمريكا إن هاجر، وأعرف كتابا غير قليلين، أرادوا إنهاء سلطة الرقيب الشخصي حين تحرروا من أزمات أوطانهم فلم يستطيعوا، وظلوا مخلصين لأولئك الرقباء الموجودين داخلهم. وآخرين كانوا يعيشون في الغرب منذ ولادتهم، وتشبعوا بحليب غواياته كلها، وجاءوا إلى أوطانهم الأصلية، بوهم اكتساب إيحاءات للكتابة، لكنهم لم يستطيعوا الاستفادة من تراث تلك الأوطان، وكتبوا كما يكتبون دائما.
من التجارب الجيدة، تجربة ليلى أبو العلا، الكاتبة السودانية التي ذهبت إلى الغرب في سن ناضج، بمعنى أنها ذهبت تحمل ينبوع إيحاءاتها كاملا، ورقيبها الشخصي أيضا، وكتبت في الغرب وعن الغرب بمواصفات مجتمعها الأصلي، وكسبت احتراما كبيرا، ونالت جوائز أيضا، غير ليلى يوجد كثيرون كانت تجاربهم الخارجية، شبيهة بتجاربهم الداخلية، لم تتغير إلا في بعض المواقف أو الأحداث التي جرت بعيدا. يوجد كتاب من لبنان وفلسطين والجزائر وغيرها.
بالطبع ما ذكرته ليس قاعدة كبرى يمكن تطبيقها على الكل، فما زال هناك من ولد في الغرب ويستطيع الكتابة عن الوطن الأم الذي لم يشاهده إلا عابرا في زيارات متقطعة، ومن يعيش في الداخل ويزور دولة أوروبية مرة واحدة، ويكتب عنها كأنه عاش فيها زمنا، وهناك من يكتب عن بلاد لم يرها مطلقا، وتقرأ كتابته التي لن تستطيع أن تفرقها عن كتابة سكان تلك البلاد المقيمين. وهكذا تبدو الكتابة حالات متباينة، لا يمكن تعميمها، بكل خصوصياتها وأركانها أبدا.
سؤال الهجرة وتأثيرها على الإبداع من ناحية نفسية، أو سايكولوجية، سؤال ضروري، لا بد أن يسأله أحد ما، حين يرى كاتبا سودانيا، يعيش في الدوحة، مثلا، أو كاتبا مصريا يعيش في الرياض، أو حتى كاتبا فرنسيا مثل جيروم فيراري، الحاصل على جائزة غونكور منذ عامين، عن رواية «موعظة حول سقوط روما»، يعيش في أبو ظبي، وهكذا.
بالنسبة لي شخصيا، لا أعتبر دولة قطر اغترابا، فهي بلد عربي أصيل مشبع بكل التقاليد العربية والإسلامية التي أعرفها، ونشأت داخلها في بلدي، لذلك لا ينطبق سؤال الهجرة السايكولوجي، عليّ، لكن سأتحدث عن الموضوع بصفة عامة، متعرضا لتلك الهجرات التي تقصي كاتبا عربيا إلى كندا أو أستراليا، أو تجعله بعيدا منعزلا في جزيرة من جزر الكاريبي، ودائما ما يوجد من يروج لتلك الهجرات البعيدة المنعزلة، ويحصل على مبالغ طائلة لقاء أن تمنحك تلك الجزيرة بيتا وجنسية لا تشبه جنسيتك، تتيح لك الوجود في كل مطارات العالم ودوله، بلا تأشيرة.
الكاتب الذي يعيش في الأماكن التي ذكرتها، لن يكون هو الكاتب الذي خرج من وطنه الأصلي باحثا عن مخرج أو سعيا وراء حلم، هنا غالبا ما يلتف حبل الحنين القوي حبل رقبته، ويصيره مجرد مواطن مكتئب يتمنى لو عاد إلى وطنه مرة أخرى، قد يعود البعض ويعودون كتابا، وقد يظل البعض في العزلة ويكتبون الذكريات المختلطة بالدموع، لكن هذا أيضا ليس قاعدة، ويوجد من يتآلف مع العزلة ويبدع.
كل الأسئلة حول الكتابة مشروعة، ومتوفرة حول موائد النقاش والحوارات، الأسئلة السهلة مثل: كيف تكتب نصوصك؟ وما هي طقوس كتابتك؟ والصعبة مثل: من يكتب لك نصوصك؟ هل هي زوجتك؟ وهذا السؤال الأخير ليس مزاحا، فما زال هناك من يسأل الكاتب بكل هدوء: من يكتب لك هذه الروايات؟
كاتب سوداني
أمير تاج السر
كما يُقال أن القارئ هو الناقد الأول والحقيقي وهو يُميز بين كاتب وآخر . ولنفترض أن حصل ووقع في يدي رواية استهلاكية فيها هشاشة الكلام ولم تأخذ طريقها الى الرقيب الشخصي أبدا . فهل يا تُرى سيتقبل الكاتب ملاحظات و نقد القُراء برحابة صدر ، أم يُفضل سماع الأطراء والمجاملات والمسايرة …أضيف هذا السؤال الى أسئلة الأستاذ أمير تاج السر مع الشكر .