■ بغير قصدٍ أو – على الأرجح – بقصدٍ، أخذت المبادرة الآيلة إلى ترئيس سليمان فرنجية للجمهورية اللبنانية تبدو أشبه بالخدعة منها بالمبادرة. إذا صحّ هذا التقدير رجَح أن تكون الخدعة قد جاءت من موضع بعيد وسلكت إلى ضحاياها طريقاً متعرّجة.
أوقَعُ ما حصل – ما دامت المبادرة قد أصبحت مستبعدة النفاذ – هو أن «السقف» الرئاسي المفترض لجماعة 14 آذار قد ألصقه المسعى الحريري بالأرض، إذ سلّم بتسليم الرئاسة الأولى للجماعة الأخرى. وهو أمر يزلزل جماعة 14 آذار لنسفه المدار الرئيسي (أو الرئاسي) للعلاقة بين ركنيها السنّي والمسيحي. يزيد الأمرَ سوءاً أن هذا التسليم اقتُصر مقابله على تسلّم رئاسة الحكومة، أي على مطلب يخصّ الركن السنّي الذي بدا وكأنه «باع» بهذه الرئاسة حليفيه المسيحيين: القوّات اللبنانية والكتائب. نقول هذا مع العلم أن التحالف العريض قد يبقى قائماً شكلاً لأسباب شتى تملي ضرورته. ولكنه يخرج من هذه المبادرة وقد ازداد ـ مرّةً أخرى بعد مرّات ـ خلوّاً من روحه، أي من الطاقة التي انشأت له وحدة جمهوره عند قيامه.
في جهة 8 آذار، لا يبدو الأمر على هذا القدر من السوء. حصل هذا المعسكر مجّاناً على التسليم المبدئي له بالرئاسة. صحيحٌ أن الإجماع المعلن حول ميشال عون قد ضُرب. ولكن الضربة جاءت من جهة مسيحية ثانوية في الجماعة في ما بقي الطرف القائد، أي «حزب الله» غير متورّط علناً. يقابل ذلك تورّط كلّي للطرف القائد في المعسكر الآخر (أي تيّار المستقبل). صحيحٌ أيضاً أن جماعة 8 آذار لم تحصل على الرئاسة الأولى فعلاً، ولكن هل يريد الطرف الممسك بزمام الجماعة انتخاب رئيس للبلاد فعلاً؟ هذا سؤالٌ كان معلّقاً في الفضاء من وقتٍ غير قصير ولا يزال.
على أن الخسارة الكبرى من جرّاء الزعزعة الشديدة لـ14 آذار والمحدودة لـ8 آذار حصدها الجانب المسيحي في جملته. فبعد أن كان يبدو منقسماً بنوع من التعادل بين الجماعتين، ظهر بجلاء أنه مقسّمٌ إلى أربع جماعات يوشك ألا يجمع بينها جامع.
في مقابل تمثيلين طائفيين جامعين، على نحوٍ أو آخر، في الجهتين الشيعية والسنّية. هي إذن محطّة جديدة لمسار التضعضع الذي تسلكه المسيحية السياسية في البلاد. وهو تضعضع بات جليّاً أنه يتعدّى السياسة البحتة أصولاً ومفاعيل.
تبقى ملاحظتان، الأولى أن هذا النوع من المبادرات معتاد في أيّ بلاد تشهد حرباً أو تشهد أزمة متمادية. هو ينفع في مداراة اليأس أوّلاً وفي تلطيف ما يجرّ إليه اليأس المبتلين به من أفعالٍ مختلفة، غير مرغوب فيها من قبل ذوي السلطان: أفعالٍ يقدم عليها اليائسون زرافاتٍ ووحداناً. هذه المبادرات التي تنعش المسرح والنفوس، إذ تبدو مخالفة لوجهة التردّي السائدة، لا تلبث أن تتكشف كلّ منها عن خيبة جديدة وعن انتظار جديد لما يتراءى في غيب ينظر إليه المضطرّون على أنه غني باحتمالات شتّى.
الملاحظة الثانية، وهي معلومة إلى حدّ يغري بالاستغناء عنها، هي أن التفاعلات اللبنانية من الطراز الذي سبق وصفه لا حظّ لها، ما دام المجتمع السياسي اللبناني هو هو، بالتفلّت قليلاً أو كثيراً من بعض ما لا ينفكّ يعصف بالمشرق، الذي يقع فيه لبنان، من أعاصير عنيفة، كثيرة المهبّات، لا ينجو منها بشرٌ ولا حجر. وهو ما يجعل المضيّ قدماً في تسويةٍ غير عابرة لأزمة النظام اللبناني، أمراً لا يزال غير مرجّح. وذاك أن المساعي المبذولة، على الخصوص، في مساق الصراع على سورية لا يبدو حتى الساعة أنها اقتربت من منفذٍ ما، إلى الحدّ الذي يبيح التفاهم العامّ على الجانب اللبناني من الصفقة الكبيرة. ذاك لا يمنع أن اللعب الظرفي في الساحة اللبنانية، إذ تحصل فصوله المؤذية بوسائط لبنانية، يترك بعضه ندوباً وتقرّحات لبنانية تصبح المعالجة الآجلة لبعضها صعبة أو متعذّرة حين يراد لها الشفاء من الخارج أو من الداخل.
في المبادرة التي نحن بصددها، حصل أخذ وردّ دبلوماسيّان أغريا بحملها على محمل الجدّ. ولكنّهما بقيا محدودين ثم مالا إلى الخمول. من ساقَ خطى صاحب المبادرة، إذن، إلى هذا الفخّ الذي يستبعد كلّياً أن يكون سعد الحريري قد تحرّك نحوه من تلقاء نفسه؟ الأرجح أن العملية بدأت في خارج جمهورية لبنان المعذّبة. بدأت في مجرى التجاذب الإقليمي وما يفرضه مجرّد السعي إلى تحسين المواقع ـ ناهيك بالبحث عن منفذ ـ من أصناف المناورة. بدأت إذن بخدعةٍ من طرفٍ غير لبناني انطلت على طرفٍ آخر غير لبناني أيضاً.
٭ كاتب لبناني
أحمد بيضون