المجتمعات والقيادات التي تتصف بالنباهة والشعور بالمسؤولية تدرك عادة ملامح تغيرات تدل على انتهاء حقبة قديمة تودعها، وابتداء حقبة جديدة تستقبلها. والذين لا يتغيرون بتغير الأزمنة، وبالتالي تغير الناس وعلاقاتهم مع بعضهم بعضا، يجدون أنفسهم عاجزين عن مواجهة الحقبة الجديدة وحل قضاياها المختلفة عن قضايا الماضي.
من هذا المنطلق البديهي، الذي علمه التاريخ للبشرية عبر القرون وفي كل المجتمعات، يجب الحكم على البيان الختامي لقمة مجلس التعاون الخليجي الذي انعقد في مدينة الرياض منذ حوالي أسبوع.
فالقمة انعقدت بعد مرور أشهر على تراجع كبير وخطر في أسعار النفط، وعلى تنبؤات متصاعدة بإمكانية بقاء ذلك التراجع لعدة سنوات مقبلة. والقمة انعقدت إبان فترة كثر الحديث فيها عن خطوات تقشفية ستخطوها حكومات المجلس، خطوات ستمس الحياة الاقتصادية والخدمات الاجتماعية في البلدان الستة. وإذا تمت تلك الخطوات التقشفية، بأشكالها المختلفة الممتدة من رفع الدعم عن الوقود والكهرباء والماء والسلع الغذائية، إلى إمكانية استحداث أنظمة ضريبية مباشرة وغير مباشرة، فاننا بصدد مراجعة كبيرة في واقع وطبيعة الدولة الريعية البترولية – الغازية الخليجية. وهذا بدوره سيعكس نفسه في طرح أسئلة كبرى تتعلق بالشرعية السياسية وبطبيعة دولة المستقبل، دولة ما بعد انتهاء أو تعديل الحقبة الريعية التي عاشتها دول مجلس التعاون منذ بدء اكتشافات البترول والغاز في باطن أراضيها.
نحن إذن في بداية إرهاصات تنبئ بمجيء مستقبل يختلف عن الماضي وعن الحاضر ويستدعي انتقال مجتمعاتنا إلى قيم جديدة وعلاقات مجتمعية معقدة وأنظمة حكم مبنية على أسس جديدة. المشهد الذي رسمناه تتضح معالمه أكثر فأكثر يومياً، والحديث عما سيأتي به المستقبل ينتشر في كل منابر الإعلام ووسائل التواصل المجتمعية، وبالتالي فإنه مشهد يحتاج إلى تحليل وفهم وإعداد لمواجهته في الحال وبدون إبطاء.
من هنا كنا نعتقد أن البيان الختامي لقمة دول مجلس التعاون سيأتي على ذكر خطوات ستتخذ من أجل تحليل ذلك المشهد وفهمه فهماً عقلانياً موضوعياً وعصرياً، من أجل التعامل مع إفرازاته في المستقبل المنظور. لكن البيان لم يشر إلى موضوع تغير حقبة البترول، ومعها حقبة الدولة الريعية، لا مباشرة ولا بشكل إيماءات تدل على أن هذا الموضوع كان في بال المجالس واللجان والهيئات التي رفعت تقاريرها وتوصياتها إلى القمة، أو أن القمة أخذت المبادرة وطرحت الأسئلة وطلبت من مختلف الجهات المعنية، سواء في أمانة مجلس التعاون أو في الدول، تقديم أجوبة في المستقبل القريب.
ولعل أفضل دليل على غياب التحسس العميق القلق بتغير الأزمنة هو عدم مطالبة الهيئة الاستشارية للمجلس الأعلى بدراسة هذا الموضوع المعقد الخطر، بل بدلاً من ذلك طلب من الهيئة الاستشارية تلك دراسة التعاون البيئي وتعزيز دور القطاع الخاص وإنتاجية المواطن الخليجي، وهي مواضيع فرعية تدور حول الموضوع الأساسي وتمس أطراف الحقبة الجديدة، ولكنها لا تذهب إلى أعماق الموضوع، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ومن الواضح بصورة جلية، من خلال قراءة متأنية للبيان الختامي، أن القمة انشغلت إلى حدود الهوس بالقضايا الخارجية، على حساب القضايا الداخلية، التي يؤكد الرعد والبرق في سماء دول مجلس التعاون أنها في طريقها لتكون عواصف تحمل الكثير من الأخطار.
بل إننا سنضيف إلى كل ما سبق الشعور المقلق، عند قراءة البيان، بأن موضوع انعكاس الخارج على الداخل، وبالتالي قرب مراجعة ما تقوم به دول المجلس في الخارج، هو الآخر لم يحض بالاهتمام الكافي. وعندما ندرك أن دول المجلس هي دول صغيرة ومحدودة الإمكانيات والتأثير في الاستراتيجيات الدولية البالغة التعقيد، نصل إلى نتيجة مؤداها أن التعامل مع الخارج بمعزل عن تأثيراته على الداخل هو تعامل يحتاج إلى مراجعة قبل فوات الأوان.
لقد ارتكبت دول مجلس التعاون الخليجي، عبر الحقب وبصور شتى، ممارسات أدت إلى وجود مشاكل ديموغرافية تهدد هويتها العروبية والوطنية، وإلى إهمال في استعمالات الفوائض البترولية لبناء اقتصاد إنتاجي ومعرفي يوصل إلى تنمية إنسانية متوازنة مستدامة، وإلى تراكم في المشاكل السياسية والاجتماعية، وإلى تعاظم في الصراعات الإقليمية الأمنية والطائفية العبثية، وإلى تباطؤ في بناء مجلس التعاون، ليكون قوياً وقادراً ونشيطاً وكفؤاً، بسبب عدم مواجهة الأمور ووضع الحلول بصورة مبكرة وبصورة وقائية، وها نحن اليوم نواجه إمكانية الانتقال من حقبة تاريخية قديمة إلى حقبة تاريخية جديدة فنفعل الشيء نفسه تجاهها: نؤجل تحليلها وفهمها واتخاذ الخطوات لمواجهة أخطارها المستقبلية.
نحن لا نقرأ التاريخ ولا نفهم التاريخ، ولذلك نظل لا نفهم الحاضر بصورة صحيحة، لننتهي بارتكاب أخطاء تاريخية كبرى تحيل تاريخنا إلى مجموعة متراكمة من الأخطاء والخطايا.
٭ كاتب بحريني
د. علي محمد فخرو