لا تبدو المخرجة المغربية ليلى مراكشي مستعدة بعد لتغيير الأوراق الفنية التي تلعب بها، فبعد أن تناولت في فيلمها الأول «ماروك» 2005، المجتمع المغربي وتابوهاته، الأمر الذي أثار نقاشا حادا، بلغ حد المطالبة بمنعه من العرض، تعود في فيلمها الجديد «روك القصبة»، لتناول موضوع مشابه، وإن حضر التابو هنا بشكل خافت، لكن الفيلم يبرز نضجا فنيا وتقنيا كبيرا في تجربة هذه المخرجة.
هي الوجهة نفسها إذن، فالمجتمع الشرقي حاضر أيضا، من خلال قصة تدور حول وفاة رب أسرة ثري (مولاي حسن/ عمر الشريف)، الذي كان يعيش في فيلا في مدينة طنجة، وخلال جنازته التي تدوم ثلاثة أيام، سنتعرف على العائلة التي تركها خلفه؛ (الزوجة عائشة/ هيام عباس) وبناته الثلاث، (صوفيا /مرجانة علوي)، (مريام/ نادين لبكي)، (كنزة/ لبنى أزبال)، وخلال تجمعهن في بيت العائلة لتلقي العزاء، ستكون هذه المدة القصيرة كافية للمخرجة من أجل الكشف عن خبايا هذه الأسرة المفكّكّة، الحائرة بين تذكر تسلط الأب والحزن على فراقه. فينتج عن تتذبذب المشاعر خلافات حادة بين الأخوات وأمهن، وانجذاب الفتيات إلى التمرد على سلطة الأب الذي لم يعد موجودا، وعدم إخافئهن عاداتهن الحميمة كشرب الخمر وتدخين السجائر، بدون الخضوع لرقابة الناس المتجمهرين حولهن. تستمر الأحداث في قذف المتناقضات وتصاعدها فنكتشف في الأخير، أن (زكرياء/ عادل بن شريف)، الذي تربى في بيت العائلة هو ابن الحسن من الخادمة راوية، التي تشتغل في هذا البيت منذ 30 سنة، راوية ومولاي الحسن وزوجته عملوا جميعا على إخفاء هذه الحقيقة طوال هذه المدة، وبذلك شاركوا جميعهم في جريمة أخلاقية كبيرة، لأن زكرياء كان على علاقة حب بصوفيا، التي هي أخته في الأصل، والكل لم يستطع منع ذلك، درءا لفضيحة انتسابه لحسن، وبهذه النقطة وضعت المخرجة اليد على موضوعة أخرى مهمة. تخيم سحابة حزن على زكرياء عند علمه أن الفتاة التي أحبها هي أخته، لكن صوفيا تتقبل الأمر، لأنهما لم يكونا على علم بشيء، وتحضن زكرياء بقوة كأخ هذه المرة، ثم تعود ممسكة بيده إلى البيت، ليحصل على حقه في ميراث والده. وعلى العموم فيمكن اعتبار نهاية الفيلم مصالحة مع الذات.. القصة تركت لكل شخصية الفرصة أن تشرح موقفها مما حصل، الكل تحدث والكل استمع.. وحتى زوج صوفيا الأمريكي جاء إلى المغرب لمواساة العائلة، لينهي بذلك الخلاف بينه وبين زوجته.. تحوّل الحزن إلى كوميديا في النهاية، يدل على تغير حال العائلة إلى الأفضل.. حتى ابن صوفيا الذي أعلن منذ أول يوم له في المغرب، كرهه لهذا البلد، تراجع في الأخير عن موقفه، بعد اعتياده على عائلته الكبيرة.
صاحبة «ماروك»، كانت ذكية في المرور على بعض القضايا الأخرى، من خلال المشاهد التي اختاراتها بتتابع متقن في البداية كانعكاس الجهل والبساطة على سلوكيات الناس، والفوضى التي تعم الأماكن الشعبية، ثم تسلط رجال الأمن في مشهد عودة صوفيا إلى المغرب، الأفكار انتشرت من خلال المشاهد واللقطات خالقة لغة أخرى بديلة عن لغة الحوار، ولم تنس المخرجة أن تشير إلى حال السينما ومعاناتها مع القرصنة، ما دام السياق مناسب لذلك، لأن صوفيا تمتهن التمثيل في أمريكا، فقد وجدت الفرصة للحديث مع زكرياء الذي يعمل في قرصنة الأفلام وبيعها.
لا يمكن لأحد أن ينكر وجود المضامين التي تناولتها المخرجة في عملها، بل هناك ما هو أكثر من ذلك، ليس في مدينة طنجة وحدها، بل في كل شبر من المغرب، ومن العالم العربي كله، ويمكن اعتبار الفيلم نافذة كبيرة مفتوحة عليه. فالمجتمعات العربية غارقة في مستنقعات الأمية والجهل والوفاء لتقاليد بالية تزيد من حال البؤس. أحسنت مراكشي التعبير عن هذه الأشياء ببراعة كبيرة، بما يؤكد حبها للفكرة التي انطلقت منها في كتابة السيناريو ومعايشتها عن قرب، فبمشاهد قليلة في بداية الفيلم لخصت مجموعة من العلل التي تنتشر في أوساط المجتمع. كيف يتعامل الناس مع الفضاء العمومي، وكيف تصبح الفوضى لغة للعيش. واختيارها البداية بمشاهد اختزال وتكثيف أمر مهم، نشاهده في أفلام مخرجين كبار. لكن من جهة أخرى فمن شاهد مدينة طنجة من خلال الفيلم سيعتقد أنها مكان موغل في الوحشية وغارق في التخلف، فالفيلم تناول فقط وجها واحدا من وجوه طنجة، التي لها غيره، لم تظهر هذه المدينة بملامحها التي جعلت منها قبلة لأهل الفن والأدب، طنجة التي حضرت في الأدب والفن العالميين، من خلال مرور العديد من المبدعين من بوابتها: تينسي ويليامز، جون جونيه، بول بولز، جاك كيرواك… فقد ظهر هنا الجانب المقلق من طنجة وسكانها فقط.. لم يظهر في مقابل مشاهد عديدة سلبية، مشهد واحد مناقض عن المغاربة، فالأمر أشبه بمطاردة واصطياد البؤس وعرضه، وتقديمه كطبق يشتهيه الآخر ويتسلى به. المرأة هنا تحضر بتناول نمطي، حيث تظهر مسلوبة الإرادة، غير قادرة على فرض رأيها وسط مجتمع شرقي متسلط. هذه الصورة هي أثيرة لدى المخرجة، التي تتبنى موقفا صريحا بوجوب الثورة على السلطة الذكورية في المجتمعات الشرقية، وهذه شجاعة محسوبة لها. والمسألة المهمة في هذا العمل هي عنصر الزمان والمكان، فالحكاية تقع في مدة قصيرة جدا، ثلاثة أيام، وهي المدة التي تتلقى فيها العائلة المغربية العزاء، المكان هو فيلا العائلة، أما الشخصيات فهي كثيرة، والعلاقات متشابكة جدا، والحوار غني بمقارنته بمحدودية المكان والزمان، لكن رغم ذلك استطاع السيناريو خلق مستويات متعددة من الحوار والمواجهة؛ خلاف، ضحك، غضب، بكاء، فرح… ورغم إتقان المخرجة صياغة مشاهد البداية، والتعبير بالصورة بتكثيف كبير ودال، جعل الشخصيات شفافة أمامنا. فالنهاية لم تكن بنسق البداية نفسه.. إذ لا يمكن أن نحرّك كل هذا الكم من الألم، والعادات والتقاليد، وبشكل سلبي.. وننتهي بشكل ساذج وبسيط مثل النهاية التي اقترحتها مراكشي، فالمعالجة ظلت غائبة، هل انتهى كل شيء؟ هل قالت المخرجة كلمتها من خلال فتح نافذة على جزء من سلبيات المجتمع وإغلاقها ببساطة؟ كما يبدو الفيلم محتاجا لوقت أكثر، خصوصا النهاية التي افتقدت وقفة أكبر وتأملا يفضي إلى إجابات. ولم يخل الفيلم من متناقضات فنية ومضمونية أيضا. فقد كان مقررا أن يتم التصوير في مدينة الدار البيضاء، وهي أنسب بحسب التصور العام للفيلم، خصوصا جانب تبني اللغة الفرنسية لغة للحوار، فمن النادر جدا أن نجد الفرنسية لغة مهيمنة ولغة لعائلة بأكملها، في شمال المغرب، بل الأنسب هو جنوبه ووسطه، خصوصا الدار البيضاء، لأن الحضور اللغوي الكلاسيكي الذي خلّفه الاستعمار وراءه، كان مقسما بحسب مناطق نفوذه، فظلت الإسبانية في الشمال والفرنسية جنوبه.
التناقض حاضر أيضا من خلال ظهور الأب بوجهين، فالقصة تشير إلى ذكراه بكونه متسلطا، لم ينجح في لمّ شمل عائلته، فعلاقته بصوفيا منكسرة، وببناته الأخريات ليست على ما يرام، بدليل الحرية التي تنفسها الجميع بعد وفاته، لكن النهاية ستظهره بشكل آخر من خلال الجملة التي قالها في النهاية: لا تجعل امرأة تبكي. لكن البكاء الذي شاهدناه في الفيلم كان بسبب هذا الرجل نفسه! وظهرت جدية مراكشي من خلال الكاستينغ العالمي لفيلمها، وتعاملها مع نجوم عالميين وعرب، كعمر الشريف الذي أضاف الكثير للقصة، رغم حضوره الذي كان عبارة عن روح ترفرف فوق بيته. حضور نادين لبكي، كان في السياق نفسه أيضا، ثم هناك مرجانة علوي التي تعاملت معها المخرجة في فيلمها الأول. وعموما فمستوى الأداء كان نقطة قوية في هذا العمل.
صحيح أن فيلم «روك القصبة» يتفوق بشكل كبير على فيلم مراكشي الأول «ماروك»، بل هو تجربة أكثر نضجا وترويّا، لكنه يظل سابحا في هوامشه، لا يقدم الجديد على مستوى القضايا المطروقة، ولا يضع المخرجة على مسافة كبيرة معه، ويكرسها مخرجة داخل حدود ضيقة عليها تجاوزها مستقبلا.
٭ ناقد فني من المغرب
سليمان الحقيوي