يوم شتوي راكد كعادته… لم يكن البرد شديدا، ولكن السماء كانت غائمة… المدينة الصغيرة تشعرني بالفراغ والإعياء…أحيانا تغمرني فرحة تركها والاستقرار في باديتنا والاحتفاء بما فيها من عزلة… ولكنني أحبها وأعشقها وأحلم برسمها بكلماتي… كنت بدأت قبل هذا بسنوات كتابة نصوص سردية وشعرية عنها نشرتها أسبوعيا وحملت اسمها عنوانا… كان هذا يكفي ليعبر عن الحلم… ماذا يعني أن يتكرر هذا العنوان أسابيع في ملحق أدبي «سيدي بوزيد» وهي المدينة التي لا أسوار ولا أساطير فيها؟ كنت أحلم برمزيتها ورمزية مقاهيها ومبدعيها ومجانينها… كنت ألوح بذلك في نصوص عديدة لفها النسيان ومرت في صمت.
صباح هذا اليوم أبكرت.. أحببت أن أملأ رئتي برائحتها وبعطر مقاهيها وأن أجالس الأصدقاء حتى يحين موعد العشية مع الشاعر جمال الصليعي الذي سيأتي من دوز في إطار أمسية شعرية تنظمها مندوبية الثقافة… هي الحلقة الثالثة من سلسلة لقاءات أطلقناها آنذاك طمعا في تحريك السواكن الثقافية وبحثا عن منافذ للكلام… استضفنا في الحلقة الأولى محمد الصغير أولاد أحمد وفي الثانية منصف الوهايبي وكان الموعد الثالث..
2
بحثت طويلا في أوراقي عن الكلمة التي قدمت بها الشاعر جمال الصليعي فلم أجدها.. لعلها مازالت بين الأوراق وسأعثر عليها يوما…
تحدثت عن جمال أكثر مما يريد البعض…
عدت إلى البدايات…
لم أعرف جمال ولم أسمع به من وسائل الإعلام العادية فهو مغيب ككل المختلفين… هم من قدموه لي ولغيري من الطلبة… هم من جعلونا نعشقه قبل أن نراه… كان أبناء دوز يجيئوننا بقصائده مكتوبة بخط اليد … يحملونها إلينا مع عبابيد التمر وكنا نقرأها بإعجاب وعشق في زمن بدأت القصيدة العربية تشعر بالضيق والحصار.
ثم كانت إحدى الليالي الحاشدة، دوى صوت جمال في مدرج ابن خلدون في كلية الآداب في القيروان وتركنا مشدوهين …حط على جراحنا وأوجاعنا وأسئلتنا.
أنا المشغول بالأيام أمضي
إلى زمن وبي زمن عقيم
وبي أهلي وبي قلقي وشعري
وبي قمر تكوره.. الهموم
أحدث عند وادي النمل نصي
بما أخفي ولا تخفي الكلوم
أسارره وقد ثقلت خطانا
أحاوره وقد يدري النموم
كلانا مولج ليلا… بليل
كلانا عند واديها نديم
يعاتبني الأحبة أن صوتي
خفيت إنما صوتي يتيم….
ويلمزني «الطوارف» أن صوتي
قديم، قل بلى … صوتي قديم
قديم مثل تاريخي وأرضي
قديم مثلما همي قديم
أنا المشغول بالأيام أمضي
إلى زمن وبي زمن عقيم
وأهلي قيمون على نصوصي
ونصي خوف صولتكم كتوم
وهدهدهم يقلّب في كتابي
لأي قراءة، قد يستقيم
بتنا نهذي بهذه الأبيات من قصيدته «وادي النمل» وحلمنا بلقاءات أخرى… كان الفضاء حاشدا كما كل مرة جمعنا فيها هذا الشاعر.. وكانت كل اللقاءات ممتعة ولقد تكررت اللقاءات مع الشاعر في مدينة سيدي بوزيد خلال أمسيات عديدة، ولكنه ظل دوما مطلبا ملحا كلما أردنا تحريك السواكن وإذكاء روح الشعر والكلمة.
3
لم يأت بعض من انتظرت ولم تطل لقاءاتي بآخرين فأحيانا تكون بعض اللقاءات ثقيلة بطبعها أو يراود الإنسان شعور بالقلق.. تجولت في فراغات المدينة حتى نال مني الإعياء والتعب.. عرجت على محطة التاكسيات ظهرا… المصلون يسارعون للالتحاق بصلاة الجمعة في الجامع المجاور… لاحظت حركة ما لم أبال بها ولم أتوقع أمرا استثنائيا…خلت الأمر نوعا من المشادات التي تحصل أحيانا هنا وهناك مصحوبة بتجمع الناس وهو سلوك فضولي متكرر في المدن الصغيرة حيث مشهد «الحضبة» كما تسمى محليا يعد أمرا مألوفا… وأظن أن هذا المشهد كان متعلقا بفترة المشادة الشهيرة… ازدردت كأس شاي في مقهى الأروقة ثم التحقت بدار الثقافة انتظارا للضيف المبجل وللأصدقاء الذين تواعدت معهم على اللقاء.
4
في حدود الثالثة حل جمال… قرأت ورقتي ثم أحلت له الكلمة فأرغى وأزبد ونزل وصعد وهو يجول بنا في عالمه الشعري… لاحظت غياب العديد من الأصدقاء ممن كانوا ينتظرون هذا الموعد بشغف منذ أيام وبدأ الهمس يتسرب محتشما «شاب أحرق نفسه أمام مبنى الولاية» «حشود بشرية تحتج…». اقتربت من جمال وهمست له طالبا أن يقطع الأمسية وأن نلتحق بالناس… وانتهى اللقاء على عجل… أمام مبنى الولاية كانت الجماهير تزداد اشتعالا… كان واضحا إحساس الناس بالألم والظلم… فالصورة فظيعة… مكثنا برهة من الزمن طلبت صديقا كان قريبا من الحشود وحاضرا منذ البداية وانتظرته، تأخر عني وسائق شاحنة النقل الريفي التي ستقلني إلى البادية يهاتفني، يستحثني على الالتحاق بالمحطة فهي الرحلة الأخيرة ومقعدي هو الأخير. سارعت إلى المحطة… احتشدت مع الركاب في القسم الخلفي ورحت أتحدث عما جرى محاولا تحليل الوضع الخطير وتذكيرهم بأن البلاد تختنق هنا وهناك، تمتم بعضهم بكلمات قليلة وهمهم البعض الآخر، لمزني بعضهم طالبا الصمت ورمقني البعض الآخر بنظرات شرسة احتجاجا على ما أقول.
عدت إلى البيت مساء… أخبرتهم بما يجري في سيدي بوزيد، ظنوا أنني أتحامل كعادتي وأضخم الأشياء، لم يأبهوا كثيرا لما أخبرتهم به فهم يعرفون أن كل التظاهرات تقمع بسرعة في النهاية وتطمس معالمها وتخفى. جلسنا في المساء إلى مائدة «الدومينو»وحذونا قناة الجزيرة… كنا ننتظر النشرة المغاربية التي أغرمنا بها أنذاك… فجأة توقفنا جميعا… إنها سيدي بوزيد التي لا تذكر في إعلام البلد إلا نادرا. تنادينا جميعا وظل أكثرنا واقفا ويتفرج باعتزاز… كان يكفي أن تظهر صورة مدينة سيدي بوزيد لنشعر بالابتهاج بقطع النظر عن مجريات السياسة… هو الحرمان والتغييب.
أنتبه إنها «سيدي بوزيد» على قناة الجزيرة… وهاهي الحشود الغاضبة تتراص أمام مقر الولاية، وصل الخبر إلى العالم… ستكبر الحكاية… هكذا قلنا بأحلام بسيطة، تلك الليلة بتنا نحاول تشغيل الإنترنت في هواتفنا… فجهتنا غير مربوطة بالإنترنت، ولم يكن لدينا اهتمام كبير به… استطعنا أخيرا أن نتمتع بالنات وبدأنا في البحث بكل دهشة وانطلقت رحلة أخرى…
٭ الجمعة الأولى هي يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 وقد سقط بن علي في الجمعة الرابعة
٭ كاتب وناقد تونسي
رياض خليف