الكويتية باسمة العنزي تصارع «قطط إنستجرام»!

على الرغم من الامتداد الزماني الطويل لحكاية «منصور لافي وأحلام»، وما يشكله ذلك الخيط العاطفي كعصب لرواية «قطط إنستجرام» الصادرة حديثاً عن دار العين للنشر، إلا أن باسمة العنزي لم تنسج حوله ما يكفي من الحكايا والعناصر لابتناء حبكة مقنعة لروايتها، حيث اعتمدت مجموعة من المشاهد أو اللوحات الاجتماعية التي لا يُراد لها أن تنعقد مجتمعة داخل قصة، وكأنها تعمدت فرط كل قصة تبدأ في التشكُّل، بما في ذلك القصة المركزية المتمثلة في عشق منصور لأحلام، المطروحة قبالة شابة مثقفة وعاطلة عن العمل، هي المعادل لوعيها كروائية.
وقد كان لوجود باسمة في هذا الموقع الرائي والمحلّل والمحرك للشخصيات، أثره في فكرنة الرواية، وتحويل حالة العشق القديمة المتجددة بين أحلام ومنصور إلى مجرد موضوع عاطفي عابر، على هامش الصراع مع الإنستجراميين، حيث لم تتبأر الرواية في الحدث العاطفي، ولم تلهث العناصر وراء تشكُّلاته، من خلال حيلة ذكية هي التي حكمت مجمل السرد، أي بإدارة صفحة في الإنستجرام بعنوان Fat Cats بطلها هو القط الرمادي «سبايس»، الأمر الذي مكّن البطلة من التعرّف على هواجس وهموم وطموحات وخيبات وألاعيب المجتمع، بمختلف فئاته وطبقاته، وبالتالي تنصيب نفسها في محل الناقد والمُسائل لكل ذلك الاهتراء الاجتماعي وتداعياته الأخلاقية، من واقع أزمتها الشخصية كعاطلة عن العمل.
وهو ما يفسر إيقاع السرد الخفيف والمستعجل، الذي لا يسمح باستواء الشخصيات، ولا تشييد الفضاءات، ولا المكوث التأملي داخل اللحظة الموصوفة، لأن المزاج الإنستجرامي لا يحتمل التشكُّل الهادئ للحالات الإنسانية، بقدر ما يشجع على الاستعراض الوقتي، وعلى هذا الأساس صارت تلوّح بأبطالها ومواقفهم وملامحهم، لدرجة أنها بدت منفصمة سردياً ما بين الكتابة المتأنية من داخل اللحظة الإنستجرامية، أو الكتابة عنها، حيث بدا التنويع واضحاً في هذا الصدد، من خلال تلبُّس روح الكائن الإنستجرامي من ناحية، والشرح التفصيلي عن ذلك الأداء التكنو- ثقافي، وأحياناً باللجوء إلى حيل مبتكرة لملاصقة الأزمنة، حيث اختصرت زمناً طويلاً باستدعاء أغنية «مرني.. مرني.. إذا الوقت يسمح لك وتقدر» من خلال صوتين: صوت عبدالكريم عبدالقادر الغائر في المعاناة والمقبل من ثمانينيات القرن الماضي، وصوت حسين الجسمي الحاضر بروحه الشبابية.
بطلتها تقيم في الفضائين: الاجتماعي والفضائي، ومن خلال وجودها داخل حلقة بيت أحلام المضيء الساحر والمفتوح على الدوام، وتعرّض حواسها لما تسميه «رغوة الكلام» الخارجة من أفواه «معازيمها». أم جراح، بائعة الطعام مساء، والعاملة كمهندسة في وزارة الأشغال صباحاً، التي تقوم بتوصيل الطعام بسيارة الوزارة، ومضاوي زوجة المستشار في محكمة الاستئناف، ومريم التي تستخدمها كأُذن للإيجار لتدلق على مسامعها مغامراتها واستيهاماتها، وغيرهن من الطالبات وسيدات المجتمع اللاتي يتجمعن عندها في عشاء تقيمه تحت عنوان»Plus 1» حيث يحق لكل ضيفة اصطحاب صديقة، وكذلك من خلال حضورها الفاعل في الإنستجرام ليس كمستخدم افتراضي، بل كمصدر مسؤول وموثوق للحراك الاجتماعي.
باسمة بارعة في رسم المشاهد، أو بمعنى أدق تجيد نسج القصة القصيرة بمهارة فنية وموضوعية، إلا أنها عندما تتمدد داخل الشريط السردي لتشييد البناء المعماري للرواية تفقد سيطرتها على شخوصها ومصائرهم لتتقدم هي بصوتها عبر تمثيلات استعارية، وهذا هو ما يفسر البناء الفني لرواية انستغرام بشكل لوحات منفصلة عن بعضها، أو قصص قصيرة مركّبة على بعضها، حيث تستأنف الكلام في كل مشهد بمعزل عما سبقه، وكأنها تريد للرابط الضمني شد كل تلك اللوحات إلى بعضها بعضا، من خلال وحدة الموضوع، والتداخل العرضي للأحداث، بمعنى أنها لا تمتلك حبكة تسمح بظهور التوتر الدرامي للأحداث، ولذلك يبدو سردها على درجة من الأفقية والانبساطية بدون مفاجآت ولا توترات تكشف عن عمق الشخصيات،
في المشهد الأول قصة مكثّفة مكتملة العناصر، حيث تلتقي أحلام بمنصور في مصعد برج «السراب»وسط العاصمة، حيث تقع امبراطوريته المالية، في لقاء»رتَّبتهُ جنية الصدفة»، في ذلك الصندوق الرمادي الذي يقاوم جاذبية الأرض، حسب تعبيرها، بما يحمله من دلالات الصعود الاجتماعي كحيز وحركة، يتصادفان فيستعيدان لحظة عشق المراهقة القديم من طرف واحد، أي من جانب منصور الذي «خط اسمها على محولات الكهرباء وسور مدرستها الثانوية بعبارات متفرقة».
منصور المراهق المندفع «المعروف بسمعته السيئة وحدة طباعه وحركاته الخارجة عن أطر اللياقة»، لدرجة لا يمكن «لأي فتاة الوثوق به وتسليمه طرف أحلامها الوردية»، أما أحلام التي تصفها كـ»أيقونة جمال متحركة»، فلم تكن تعيره أي انتباه آنذاك، فقد تزوجت بمن يليق بمكانتها في حفل باذخ «لتعود بعد خمس سنوات إلى بيت أبيها بحقائب وقصص»، وها هي اليوم بعد انفصالها، أي بعد ربع قرن على حكاية المراهقة تلك تترنح وهي تسمع عبارة منصور التي قالها بثقة ابن الأربعين «اتصلي بي، سأنتظرك» لتُستأنف الحكاية من جديد.
في ذلك المشهد المسبوك بعناية لغوية فائقة، كانت باسمة تنتقي مفرداتها بدقة، وتصوغ عباراتها بإشارية فطنة، وتراكم الأحداث الصغيرة في بناء معماري متماسك بشيء من التؤدة والهدوء، إلا أنها تحرق كل ذلك النسج المتأني للأحداث في الصفحات التالية بسرعة فائقة، لتُنهي الحكاية بتزويجهما، في ما يبدو انتصاراً للحالة الإخبارية على حساب الفن، حيث تقطع رومانسية الشريط السردي الذي يبدأ بالحارة القديمة لتقفز إلى أبراج التسوق وعالم المال والأعمال والأبهة الاجتماعية.
أما الشخصيات فلا تقدمها من خلال بناء مزاياها ودوافعها النفسية بقدر ما ترسم الإطار العام لها، ربما لأنها كانت مهجوسة بإدانة الطبقة الانتهازية التي صارت تتقدم هرم السلطة المالية والاجتماعية بدون مقومات أخلاقية، كما تتمثل في منصور، وأيضاً لأنها مدفوعة بتهشيم صورة المرأة التافهة الشاخصة باستمرار ناحية تلك الطبقة الفاسدة، وإن كانت أحياناً تقارب الشخصية بعبارات أشبه ما تكون بالحواف الحادة التي تؤطرها، «منصور ذو جلد سميك، لا تخجله نظرات الاتهام، ولا توتره أحاديث المدينة عن سرّ تضخم ثروته، لا يكترث لفكرة الآخرين عنه».
وهكذا تحولت الرواية إلى خطاب لاستعراض الجانب البائس من الفضاء الكويتي، فأحلام تعلم أن «الجربوع» منصور هو الذي استولى على بيت الأرملة أم سلمان، وتعرف أنه سجن ابن جيرانهم بقوة نفوذه، ولا يخفى عليها تاريخه الملوث كمراب ومتعامل نشيط في غسيل الأموال، ولكنها مضطرة للحضور اجتماعياً، وداخل السياق الروائي من أجل تبييض تاريخه، وإعادة إنتاج شخصيته كرجل أعمال ناجح، لتتمكن من تقديم صورتها هي كسيدة من سيدات المجتمع الراقي، وحينها لن تشعر بالحرج الاجتماعي.
هكذا يبدو الحب بالنسبة لأحلام فهو «ورقة ضمان طويلة الأمد، قليل من الرومانسية والكثير من العمل المشترك، الحب بالنسبة لها قابل للقص واللصق وإعادة التدوير»، خصوصاً أن لحظة «السوشل ميديا» تسمح باللعب في الاتجاهين، من منظور الرواية، أي تصعيد الذات أو خسفها بموجب حملات دعاية ضخمة مدبرة بعناية، وهنا مقصد الرواية المُعلن، حيث لا تمتنع البطلة عن العمل كمفتاح انتخابي لمنصور وحسب، بل تقاتل من أجل تعريته.
المرأة المثقفة العاطلة عن العمل، ترفض توظيفها داخل ذلك الاستعراض التصعيدي للمفسدين والتافهين، حيث تعود للإنستجرام مرة أخرى بكل سمعتها وثقلها على إيقاع حملة منصور لافي، الذي وقع بدوره عقداً ترويجياً ضخماً مع وكالة «هابي تايم»، ومن خلال قطها «سبايس» تبدأ حملتها المضادة «سبايس سيفعل المستحيل كي يصل لهدفه، الفساد موجود في كل مكان وزمان، ما يمكننا عمله هو التخفيف منه، هل هي مهمة مستحيلة؟». لتتوالى التعليقات من «ربان العدم» أولاً «ليست مستحيلة لو بدأنا بها مبكراً من التعليم، ومبروك عودتك، نوّرت انستغرام يا صديقة»، فيما تصطدم بتعليق آخر يعاكس التباين في وجهات النظر والصراع المحتدم بين القوى داخل الفضاء الإنستجرامي كمعبر عن الحالة الاجتماعية الأوسع «أوووف، أمّ قطّ أجرب رجعت! كنا مرتاحين منك».
كل عبارة كانت تحيل إلى وجهة نظر، وإلى قوة اجتماعية من نوع ما، أو هذا ما أرادته باسمة «الفساد الذي تتحدثين عنه صنيعة أناس عاديين ساهموا به، أنظري لنجوم إنستجرام وترويجهم لحملة أحدهم الانتخابية، حتى المهرجون لهم دور في صنع الفاسد»، إلى الحد الذي صارت فيه الرواية محلاً للعبارات الخطابية، التي طمرت بدورها الكثير من العبارات الشاعرية الإيحائية التي تجيد باسمة نحتها، بمعنى أن الرواية تحولت إلى محاكمة للإنستجراميين وأداة فضح للفاسدين من خلال الإنستجرام في آن.
الفساد المالي الاجتماعي هنا هو العنوان المخفف، أو المراوغ بمعنى أدق، للخراب السياسي الذي تعاني منه الكويت، وهو ملمح بات على درجة من الوضوح في الروايات الكويتية مؤخراً، وهذا ما تقول به مضمرات خطاب الرواية، كما يمكن التقاط ذلك في واحدة من الإشارات المهمة «القطط السمان لها أذيال في كل مكان، أعضاء مجلس أمة دفعوا بهم إلى الضوء بعدما موّلوا حملاتهم الانتخابية، وقدموا لهم التسويق والدعم اللازمين»، كما تتعرض الرواية في مواضع أخرى إلى الواقع المالي للكويت من منطلقات سياسية.
بطلة باسمة التي تمثلها داخل الرواية بقدر ما تبدو واعية ومناقبية، يسكنها ذلك الإحساس الحاد بالهزيمة واليأس والغضب بعد أن خسرت وظيفتها ومكتبها في برج «السراب» بما يختزنه هذا الاسم من دلالات الوهم كمقدمة لكارثة مقبلة، وهي مشاعر تظهر في انفلاتات كلامها وانفعالاتها، وتبدو بارزة بشكل أكبر من خلال الصورة المكبّرة والمقرّبة لامرأة تدخل المطبخ لتعد وجبة غذاء لتتناولها وحيدة بمفردها أمام التلفاز، وتتصفح كتاباً اشترته من موقع أمازون يحتقن عنوانه بوابل من دلالات الخيبة «The winner take all society»، نعم فهي ساخطة على ميليشات الإنستجرام التي أكملت مهمة الفاسدين الذين أتلفوا الحياة، فقد صار بمقدورهم «تلويث سمعة الناس، تغيير المفاهيم، خلق الفوضى بحيث لم تعد هناك قواعد صالحة للعب في الفضاء الافتراضي»، وحيث «تعرض مفهوم السمعة للانكماش ككرة تسرب هواؤها»، ولذلك لم يعد بمقدورها سوى منازلة الإنستجراميين الأذيال بقطّها السمين «سبايس».

كاتب سعودي

محمد العباس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية