باريس ـ «القدس العربي»: يمكن القول إن العام 2015 هو عام اللجوء واللاجئين بامتياز، فقد سجلت «منظمة الهجرة الدولية» عبور ما لا يقل عن مليون شخص إلى مختلف الدول الأوروبية، براً وبحراً، مؤكدة أن هذا الرقم تضاعف أربع مرات عما كان عليه في السنة الماضية.
نصف هذا الرقم يعود للاجئين السوريين، وقد اعتبر المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أنطونيو غوتيريس أن «الحرب في سوريا المولد الأكبر للاجئين الجدد والمسبب الأهم للنزوح الداخلي والخارجي الجماعي والمستمر حول العالم».
هكذا شكلت تركيا «أكبر بلد مضيف في العالم على الإطلاق إذ وصل عدد اللاجئين على أراضيها إلى 1،840،000 شخص حتى 30 حزيران/يونيو. أما لبنان فيستضيف عدداً من اللاجئين أكبر من أي بلد آخر، مقارنة بحجم سكانه، حيث يبلغ عدد اللاجئين فيه 209 من بين 1000نسمة.
إن وجود أكثر من أربعة ملايين لاجئ سوري في تركيا ولبنان والأردن يؤدي بشكل كبير إلى «ارتفاع الضغوط على البلدان المضيفة أيضاً ـ وهو أمر يمكن أن يضاعف الاستياء والتحريض على تسييس اللاجئين في حال عدم معالجته».
ويبدو أن التمويل الذي تحظى به دول اللجوء حول سوريا لم يستطع أن يبدل كثيراً من أحوالهم، إذ تشير دراسة أجرتها مؤخراً مفوضية اللاجئين والبنك الدولي إلى «أن تسعة سوريين من أصل عشرة في لبنان والأردن يعيشون تحت خطوط الفقر الوطنية الخاصة بكل بلد».
وفي الأردن على سبيل المثال فإن حوالي مئة ألف لاجئ فقط يعيشون في مخيم الزعتري وهو يعتبر اليوم «من أكثر الرموز البارزة للحرب» بينما يعيش ثمانين قي المئة من اللاجئين خارج المخيم، في مساكن غير ملائمة مع صعوبة دفع الإيجارات، ويبدو أن الأوضاع المعيشية الصعبة هي ما تدفع إلى ظاهرة تسرب الأطفال من المدارس. هذا الوضع يدفع لاجئي الأردن، ومثلهم لاجئي لبنان من السوريين إلى البحث الدائم عن طرق للجوء إلى بلدان جديدة يمكنها أن تكفل عيشاً كريماً لهم. أما في تركيا، فصحيح أن الأوضاع أفضل بنسبة كبيرة بالقياس إلى لبنان والأردن، إلا أن اللاجئين لا يعدمون أسباب الهجرة، من أوضاع اقتصادية غير مستقرة، إلى الرغبة في لم الشمل وفي تعليم أفضل.
رحلة مضنية
لقد دفعت الحرب وبطش النظام السوري حوالي 11 مليون سوري للنزوح عن بيوتهم وأملاكهم، في رحلة لجوء مضنية لعلها الأكبر في العصر الحديث.
وعصفت الحرب بالسوريين فألقتهم في شتى أصقاع الأرض، ولقد تابع العالم تقارير صحافية وتلفزيونية ترصد أوضاعهم المفاجئة، في السودان، والمغرب، وموريتانيا، وحتى مالي التي وصلها سوريون فروا من حرب اليمن بعد أن لجأوا إليها هرباً من الحرب السورية. كل ذلك في الطريق نحو رحلة أخرى مجهولة المصير. هذا ما عرّض اللاجئين دائماً إلى الوقوع في براثن المهربين والمتاجرين بالبشر، وما عرّضهم في بعض الأحيان لخطر الموت، وقد شهد العالم على مدار العام حوادث غرق وموت واعتداءات على اللاجئين، فقد قضى الآلاف منهم غرقاً أثناء عبورهم البحر المتوسط إلى السواحل الجنوبية الأوروبية، كما شهدنا اعتداءات من بينها حادثة الاعتداء الشهيرة من صحافية مجرية بحق أحد العابرين لبلادها، وكانت جزءاً من موجة كراهية في تلك البلاد عصفت باللاجئين. لكن يبدو أن تفاقم هذه الحوادث، ومن بين أبرز تلك الحوادث الصورة الشهيرة للطفل السوري آيلان غريقاً على الشواطئ التركية، وقد أصبحت واحدة من أبرز أيقونات الحرب، وقد تركت الصورة أثراً عالمياً بالغاً، ففي ذلك الشهر بالذات (ايلول/سبتمبر 2015) قررت ألمانيا فتح الحدود أمام اللاجئين السوريين العالقين في أوروبا، وخصوصاً دول البلقان، وكان من أثر ذلك تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين، ما جعل السلطات الألمانية تحجم مجدداً عن استقبالهم لتتيح فقط العبور لبعض الجنسيات من سوريين وأفغان وعراقيين.
وجهان لأزمة
ليس غريباً إذاً أن تتمحور كلمة الرئيس الألماني غاوك في عيد الميلاد أخيراً حول أزمة اللاجئين، ليعكس في كلمته وجهين لأزمة تعاني منها البلاد؛ فقد أشاد بجهود المتطوعين (من الألمان) الذين «ساهموا في السيطرة على أزمة اللاجئين» و»أصبحوا جميعاً وجهاً لبلد عطوف وإنساني»، ودعا، في الوقت ذاته «لمواجهة العنف ضد اللاجئين بكل قوة يسمح بها القانون» مؤكداً أن «إضرام الحرائق والهجمات على الناس العزل تستحق ازدراءنا و تستحق المعاقبة». وكانت ألمانيا وحدها قد استقبلت هذا العام مليون مهاجر ولاجئ».
وفي ألمانيا بالذات سنجد الجدل على أشده بين مواقف شتى من اللاجئين، متطوعين لمساعدتهم، أو مضرمين للنار في أمنهم واستقرارهم، ممن يدقون أجراس الخطر بأن هؤلاء ليسوا سوى عبء، أو من مبشرين بأن اللاجئين هم قوة إضافية من شأنها أن تنعش الاقتصاد وتجدد الحيوية الاجتماعية. وهناك من يصل إلى القول إن اللاجئين أو المهاجرين «ليسوا متلقّين سلبيين للمساعدات، بل يجلبون معهم نقاط قوة، منها أنهم تمكنوا من البقاء على قيد الحياة ضد احتمالات هائلة في أكثر البيئات المعادية».
وفي وقت تحمل المجتمعات الجديدة عبء «حماية اللاجئين والمهاجرين من العنف وسوء المعاملة، ينبغي أن تفكر في الوقت ذاته بالاستفادة من الفرص التي يقدمونها من الطاقة والمهارات والموارد، ليس فقط لتحسين حياتهم، ولكن أيضا للمساهمة في النمو الاقتصادي للبلدان المستقبلة والتنمية الاجتماعية في المجتمعات المضيفة».
وقد بات شهيراً ذلك الرسم لفنان الغرافيتي البريطاني بانكسي، ويصور فيه مؤسس شركة آبل الراحل ستيف جوبز على جدار في مخيم كاليه الفرنسي للاجئين، وهو يحمل حقيبة ظهر ونموذجاً أولياً من كمبيوتر آبل
ليقول إنه لم يكن من الممكن أن يتعرّف العالم غلى آبل لولا جوبز الذي يتحدر من عائلة مهاجر من مدينة حمص السورية.
ذلك الرسم جاء على حافة أشهر مخيمات اللجوء، تلك التي يحاول سكانها العبور إلى الجانب البريطاني متحدّين خطر الموت تحت عربات الشاحنات وعلى أسيجة السكك الحديدية للقطار العابر النفق بين فرنسا وبريطانيا، وقد بلغ المخيم أرقاماً غير مسبوقة هذا العام، حيث وصل الرقم إلى حوالى ثلاثة آلاف لاجئ، مع حملات التضييق على العابرين، الأمر الذي جعل المخيم طوال العام حدثاً حاضراً في تقارير تلفزيونية وإعلامية، خصوصاً بعد مقتل لاجئين كانوا يحاولون العبور.
العودة إلى الديار
أما حول العالم، فقد رجّح تقرير أممي صدر أخيراً أن يكون 2015 العام الذي تتجاوز فيه أعداد المهجرين قسراً في العالم الـستين مليون للمرة الأولى، والرقم يشمل اللاجئين والمهاجرين والنازحين داخل بلدانهم، كما رجّح أنه «حتى مع استثناء الحرب السورية من الحسابات، يبقى الاتجاه الأساسي هو ارتفاع مستوى النزوح عالمياً».
ففي أوغندا وحدها هناك أكثر من نصف مليون لاجئ، وغالبيتهم من جنوب السودان وبوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وتسجل أوغندا أرقاماً للاجئين هي الأعلى في تاريخ ذلك البلد إذ استقبلت هذا العام حوالى مئة ألف شخص، لتصبح البلد الثالث في استضافة للاجئين في إفريقيا بعد إثيوبيا وكينيا.
ويعود ذلك إلى ما تتمتع به أوغندا من «سياسات منفتحة وذات رؤية مستقبلية في ما يتعلق باللاجئين واللجوء؛ فعند الحصول على صفة لاجئ، يحصل اللاجئون أيضاً على قطع أرض صغيرة في القرى، مدمجة في المجتمع المضيف المحلي».
وعلى ما يبدو فإن كينيا لم تعد البلد الذي يحلم به اللاجئون الصوماليون، فقد عاد منها أخيراً حوالي خمسة آلاف لاجئ صومالي، في وقت قدم فيه عدد مماثل طلبات للعودة إلى الديار.
كذلك فإن آلاف الصوماليين عادوا إلى بلادهم بسبب الحرب في اليمن «على الرغم من أن الظروف الأمنية والاجتماعية والاقتصادية في أجزاء كثيرة من الصومال ليست ملائمة لعودة على نطاق واسع، وأن العديد من اللاجئين لا يزالون يشككون بأمر العودة». ويذكر أن أكثر من مليوني صومالي لاجئ ما زالوا موزعين بين اليمن وكينيا وأثيوبيا وهجرة داخلية.
وهناك، في منطقة القرن الأفريقي، فإن للهجرة واللجوء تعقيداتها أيضاً، إذ يعبر اللاجئون من الصومال وأثيوبيا وأريتريا الأخطار للوصول إلى اليمن ما يعرضهم من قبل شبكات التهريب إلى «سوء المعاملة والاغتصاب والتعذيب والاستغلال والإيذاء الجنسي للحصول على فدية، بل ويلقى بعضهم في عرض البحر نظراً لاكتظاظ الرحلات».
ولا يشكل اليمن بالنسبة لهؤلاء مطمعاً بذاته بل معبر إلى دول الخليج. أما اليوم فقد بات اليمن نفسه عرضة للتهجير إثر الحرب. حيث يحاول كثير من أبنائه الوصول إلى جيبوتي والصومال، وتقدر أعداد اللاجئين اليمنيين اليوم بمليون ونصف شخص (داخل اليمن وخارجه).
انعكاسات اللجوء
كذلك ينعكس موضوع اللجوء في كل مفردات الحياة، فربما حان الوقت مثلاً للبحث في صداه في أعمال فنية وإبداعية، ولعله ينعكس بشكل أوضح في السينما التسجيلية، نظراً للحاجة الملحة للتوثيق ولأن يضع اللاجئون، وهم على حافة الموت، أنفسهم على مرأى من كاميرات وعيون العالم. لكن عموماً يصعب أن نتوقع في أي مكان وفي أي فن يكون الصدى، كان غريباً مثلاً أن نرى موضوعة اللجوء في عرض تصميم أزياء، وفـــي صـــور فوتوغــرافية مثيرة لمصور مجري.
لا شك أيضاً أننا سنشهده مستقبلاً يملأ السينما الروائية، تلك التي تحتاج لوقت أطول في التأمل والكتابة والبحث عن إنتاج وفي العمليات الفنية.
ستوفر الحرب والهجرة واللجوء عالماً ثرياً بالمآسي والقصص والدراما التي من شأنها أن تنعش كافة الأنواع الأدبية والفنية، وكذلك مشكلات الاندماج ومفارقات العيش في المجتمعات الجديدة. تماماً كما ستفعل غداً مفارقات العودة إلى الديار، التي ستظل هدفاً وأمنية سيكتشف اللاجئون مع الوقت أن ليس بإمكانهم التنازل عنها.
راشد عيسى