قد يبدو هذا العنوان اختزالا للعراق العريق في كل مناحي الحضارة، بحيث يكون شاعرا فقط، والحقيقة أن العراق روائي وفيلسوف وثائر وصوفي وعاشق، لكن شعريته بما لها من حفيف شجيّ وعناق للتراجيديا تبقى ذات جاذبية من طراز آخر، فالعراق منذ كتب على الطين حتى جدران الزنازين ومقاهي المنفى كان له مذاق بنفسجي، رضع من النخيل سخاءه وديمومته ومن سماء سومرية محتقنة بزفير العابرين لا الغابرين أسطورته الأبدية.
تلك السماء التي أخلاها التاريخ لحظة ارتهانه وغيبوبته لغربان الفولاذ بعد أن كانت تعج بسحابات من الطيور ومنها ما اقترن بالأسطورة كالفاختة التي كان صدى نشيجها يملأ العراق في الظهيرات القائظة، وتسأل طيلة الوقت عن أُختها التائهة.
والعراق الذي كان الرافد الأعمق في بواكير الشعر العربي الحديث، عبرت منجزات رواده من الشعراء الحدود، وكانت إيقاعاته السيّابية على وجه التحديد تضبط خطوات العديد من الشعراء العرب، ورغم أن المتنبي عاش في زمن عربي إسلامي لا توجد فيه جوازات سفر أو هويات سايكس ـ بيكوية، إلا أنه كان وسيبقى عراقيا بامتياز، ولهذا أحس بالاغتراب في أي فضاء آخر غير فضائه الأول، ولا حاجة بنا إلى سرد قائمة بأسماء شعراء العربية الذين اصطبغت قصائدهم بجمّار النخيل، وكانت ناياتهم من حقول القَصَب. وحين قرأت كتاب الصديق الشاعر العراقي علي كنانة بعنوان «المنفى الشعري العراقي»، أحسست على الفور بأن هذه المساحة المسكوت عنها أزفت لحظة البوح بها، فالكتاب يبحث أركيولوجيا في ظاهرة النّفي بالمطلق، ومن ثم ظاهرة المنفى في الشعر العراقي، عشرات وربما مئات من الشعراء رحلوا قسرا أو طواعية من العراق إلى القارات الخمس، وراوحت الأسباب بين السياسي والاقتصادي والثقافي، والمفارقة هي أن العراقي عموما وليس الشعراء فقط كان أكثر التصاقا بجذوره، ولكنه في ظروف بدأت استثنائية ثم تحولت إلى ما يشبه القاعدة الذهبية، أصبح يُدفن في غير مسقط رأسه، بدءا من الجواهري والبياتي حتى آخر شاعر عراقي رحل في منفاه، رغم أن الجنائز الحقيقية لهؤلاء ليست تلك الرمزية والطقسية التي تمارس في المنافي، فما من شاعر منهم رحل إلا وحاول النخل أن يمشي في جنازته لولا أن جذوره العميقة تحرمه من هذا السّعي.
وحين يقول السياب إنه حمل صليب غربته في منفاه، فذلك لأنه حمل التراب الذي غنّاه في جيكور، فالظلام حتى الظلام هناك أجمل لأنه يحتضن العراق. أما البياتي فيخاطب الغربة بما لم تخاطب به من قبل ويقول إنها بنت كَلْبة.
وحين نقرأ بعد عقود القصائد التي كتبها سعدي يوسف بعيدا عن سمائه الأولى، نشعر بأن العراق يقيم في أرواح أهله وبنيه وليس في ذاكراتهم فقط، لهذا يبلغ عتاب الأمومة الرّؤوم عند سعدي حدّ رمي حجر على الأم التي فرّطت بابنها العاشق حتى لرائحة العرق في قدميها.
وما تعرّض له العراق الحديث من خذلان قومي انعكس في تجلياته على الثقافة، فلم يعد يذكر العراق حتى من كان شهد. والشعر الذي كتبوه من رحيقه، لقد ذكّرني كتاب علي كنانة بما سمعته ذات يوم من الصديق الشاعر مالك المطّلبي، قال كنت أشارك في ندوة خارج العراق لثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث شعرت بالاختناق وكأن اكسجين هذا الكوكب كله في فضاء العراق ثم أضاف: الآن أفهم كم هي باهظة وفظيعة التراجيديا الفلسطينية، لأن هناك من لم يعودوا إلى بيوتهم بعد أكثر من نصف قرن. وحين زرت ذات يوم ضريح الحلاج سهرت مع حارسه العجوز وشعرت بأن العتمة تكون أحيانا بيضاء، لأن هناك نورا سري المنبع يسري في الروح ويصيبها بالقشعريرة.
وهذه مناسبة لأن اقول بلا مواربة إن من لم يرضع من شعر العراق عليه أن يرميه بقصيدة وليس بحجر، فهناك تساقط الرطب من نخلة باسقة رفضت الانحناء فهزها زلزال وتعرضت لعقاب هو باختصار مئة الف غارة جوية.. تساقط الرّطب واحتضنه التراب لأنه أولى به من ذوي قربى تنكروا لدجلة الذي شربوا منه وغسلوا به موتاهم ثم غسلوا به دبابات الغزاة.
إن منفى الشاعر العراقي ملكوت مغطى بالدّمع والندى، ولعل تلك البحّة الشجية قد تسللت إليه من أحزان القصب، ومن نهر غرق في مائه حين رأى ما رأى في زمن أصيبت فيه البوصلات كلها بالعطب، وحذف الفاصل بين الحدود والنقائض.
وإذا كان الإمبراطور الغاشم قد نفى شاعر الحب أوفيد صاحب فن الهوى ومسخ الكائنات إلى أرض لا تظهر فيها علامات الفصول، فإن الأباطرة الذين نفوا هذا العدد من شعراء العراق من مختلف الأجيال فعلوا ما هو أبعد، لهذا كانت المنافي التي هاجر إليها الشعراء أوطانا بمقياس غير جغرافي وله خطوط طول وعرض ثقافية وإنسانية وشعرية.
وما كتبه علي كنانة عن سركون بولص أضاء ذاكرتي حتى الاحتراق على ليلة عشناها حتى شروق الشمس بولص وأنا في لوديف الفرنسية، وكانت في الحديقة التي سهرنا فيها نافورة لا تكف عن الثرثرة.. ومما قاله سركون… إنه يشعر بالحنين حتى لنباح الكلاب في تلك البلاد التي أصبحت قصيّة، وقبل أن أودعه ليعود إلى منفاه سخر من النافورة لأنها لا تكف عن الثرثرة حتى بعد أن نموت، وبعدها بشهور رحل سركون والنافورة لا تزال تثرثر في إحدى حدائق لوديف، والآن أزداد قناعة بأن الهدف من الحروب على العراق كان، إخراج العراق من العراق، ودفع أشجار النخيل الباسقة للاعتذار لجاذبية الأرض عن انتصاب قاماتها. لكن التعريف الذي لا يفهمه الجنرال والسمسار وقاضم ثدي أمه للانتصار، يجزم بأن العراق ماكث حتى الأبد في العراق وأن شعراءه المنفيين لهم حفيف في كل شجرة فيه.
كاتب أردني
خيري منصور
الاستاذ خيري الرائع والرقيق :- جميع ما تكتب له في اللسان قبل الاذن طعم الورد … كلماتك أدخلتها الى الروح بأجنحة المحبه ، ومن ثم أسقطتها على الورق بدم القلب … شكراً لهذا المقال الجميل
كلّ عام وأنتم بخير:
الأستاذ الوفي خيري منصور…تستحق من كلّ عراقي قبلة على جبينك ؛ لهذا المقال
المكتوب بقصبة القلب قبل قصبة القلم.للأمانة فإنّ مقولتك الخارقة للزمان والمكان :
( والآن أزداد قناعة بأن الهدف من الحروب على العراق كان، إخراج العراق من العراق ).هي أروع عبارة قيلت بشأن العراق في القرن الحادي والعشرين حتى الآن.
هوليس مجرد مقال بل قصيدة جمعت التراجيديا من أطرافها ؛ وغيرالتراجيديا كذلك.
شكراً لخيري منصور: كاتباً وإنساناً وأخلاقاً.مع التقدير.
مقاربة رائعة بأسلوب مجازي رائع لم أتمكن من حبس أدمعي التي هاجمت مقلتي بشراسة وأنا أتامل عبارات الكاتب المبدع والمحب خيري منصور الذي أوجز المشهد بأسطوريته المفجعة التي قذفت بنا نحن العراقيين في مختلف أصقاع الارض فهنا نحن رغم مكوثنا العقد ونصف مازال أمل العودة يسكننا وقناديل الامل لم تنطفأ جذوتها ، لك منا يا أستاذنا الرائع خيري ألف تحية وقبلة على الجبين وانت تحاول البحث في جدلية ما جرى للعراق وسلم قلمك الموضوعي الشفاف