«قناديل منسية» للشاعر الجزائري بغداد سايح: مشاكسة الذاكرة وازدحام الكلمات عند باب الوطن

حجم الخط
0

ليس صحيحا أن بوصلة الشعر العربي تتجه دوما نحو النثر، وليس صحيحا أن النص الشعري الراهن يخرج من هويته وينغلق على ذاته ولعبته اللغوية، فمازالت أسماء شبابية عديدة تتوافد على المشهد الشعري من البوابة الشرقية القديمة… بوابة القدامة بايقاعها ولغتها ومعانيها تلك التي دخل منها شعراء الأحياء مثل أحمد شوقي ومعروف الرصافي وحافظ إبراهيم وغيرهم من الأفذاذ.
ولعل الشاعر الجزائري بغداد سايح يعد أحد هؤلاء الشعراء الشبان الذين دخلوا الشعر من هذه البوابة، وقد استطاع إحراز جوائز عديدة وتسجيل حضور متصاعد في المشهد الشعري الجزائري وإصدار عدد مهم من المجموعات الشعرية من بينها هذا العمل وعنوانه «قناديل منسية»، و يضم أكثر من عشرين قصيدة يغلب عليها الشكل الشعري القديم في نسخته الاحيائية، وهو عمل يشاغب الذاكرة ويشاكسها على مستويات عديدة.
يطل بعنوان خارجي يستهدف الذاكرة ويرنو إلى إضاءتها وإيقاظها ومحاربة ما بدا فيها من عتمة واستهداف النسيان الذي يلفها… إنه لوم الذاكرة الجماعية التي اعتادت نسيان القناديل وهي رمز الضياء والنور… ويتضح من خلال مقدمة الكتاب أن القناديل ليست إلا قصائد الشاعر، وهو ما يعتبر موقفا ميتا شعريا أو من باب ما يسمى حديث الشعر عن الشعر، فالشاعر يصف شعره ويشبهه بالقناديل وهو يشكو في الوقت نفسه من نسيانه… وقد يرنو إلى وصف ذاكرته الخاصة فلعلها تحديدا المتهمة بالنسيان. هكذا اختار بغداد سايح أن يكون تحدي الذاكرة هاجسا يشهره في أهم عتبات كتابه وهي العنوان الرئيسي. ويلح عليه في كلمته الأولى التي قدم بها عمله الشعري، حيث بين أن مجموعته تضم قصائد قديمة جمعها خوفا عليها من النسيان والإتلاف وأخرجها من غرف النسيان، على حد قوله، متحدية هذا الليل العجوز.
والحقيقة أن العناوين الداخلية لبعض القصائد لا تخلو بدورها من هذه المشاكسة للذاكرة من خلال ما ورد فيها من إحالات إلى الماضي…لنا ان نستدل على هذا بعناوين من قبيل حواء وتفاحة بوح/حكاية شهريار/أبابيل الطفولة/أنثى من شرفات القافية/أهلا نوفمبر/واحة الشهداء..
هذه العناوين على صلة بالماضي من خلال صلتها بالنص الديني (حواء/تفاحة البوح/أبابيل) وبالنص الشعري العربي القديم (القافية) وبالنص السردي القديم (حكاية/شهريار…) وبالتاريخ الوطني الجزائري (الشهداء/نوفمبر) وهي مشاغبات مختلفة للذاكرة ومحاولة لإيقاظها.. ولا يمكن أن نلمس هذا في مستوى بعض العتبات فقط فللنصوص أيضا لعبتها مع الذاكرة… فهذه القصائد المشبعة بتناصات عديدة ترتفع فيها أصوات الشعراء الغزليين القدامى وتحضر أصوات شعراء الحداثة ومناخاتهم فيلوح للذاكرة شبح أبي القاسم الشابي ومفدي زكرياء وغيرهما من رموز الشعر الحديث في رومنطقيتهم المنعشة ووطنيتهم الصافية… تلامس بدورها الذاكرة بما تحفل به من ذكريات زمن الطفولة (قصيدة أبابيل الطفولة مثلا) ومن ذكريات وطنية مثل عيد الثورة الجزائرية في أول نوفمبر/تشرين الثاني وعيد الاستقلال في الخامس من يوليو/تموز..
فإذا انتبهنا إلى أن النصوص الشعرية وعتباتها تتميز بحضور وفير للتراكيب التناصية وتستدعي ضمنيا نصوصا عديدة من الشعر العربي القديم والحديث، سيكون أمامنا أن نفهم أن استهداف الذاكرة ليس دعوة لتذكر قصائد الشاعر فقط وإنما هو استنهاض لذاكرة جماعية منسية واستفزاز لذاكرة عانقت النسيان وأهملت الكثير من الأمجاد.. وهي مشاكسة للأجيال الشعرية المعاصرة التي تاهت في أودية اللغة والمجاز وهربت إلى تهويمات ذاتية مغلقة ومنكسرة واحتمت وراء الباب الحديدي الغليظ الذي أوصد به الشكلانيون باب الأدب وحصروه في إطاره اللغوي والشكلي وأخرجوا منه كل الأنساق الاجتماعية والسياسية والقيمية.
فهذا الشاعر اختار أن يخالف أقرانه وأن يحتفل بالجزائر بشكل لافت، فهي البداية وهي النهاية وهي داخل النص وخارجه وهي المطلع والمنتهى.. فازدحمت القصائد بالوطن.. ازدحمت بجزائر أول نوفمبر وجزائر الخامس من يوليو.. جزائر الثورة والتحرير…الجزائر التي تحبها الذاكرة العربية وتفخر بها…
فالجزائر لا تغيب عن قصيدة واحدة فهي مبثوثة هنا وهناك بين الكلمات والقصائد ومن مظاهر هذا الحضور التزام الشاعر بترديد مقطع شعري يحيي الجزائر ويمجدها وقد تكرر هذا المقطع في ختام مختلف القصائد ما عدا قصيدة واحدة:
«قولي جزائر ما تقول لنا الورود
قولي المحبة سوف يسمعك الوجود
لك حبنا والمجد كله والخلود»
والشاعر في هذا المجال يحتذي طريقة الشاعر الجزائري الكبير مفدي زكرياء في إلياذته الشهيرة التي تغنى فيها بالجزائر. كما دوى صوت الجزائر في مطالع قصائد كثيرة ومنها قصيدة «واحة الشهداء»، هذي الجزائر في سبيل جمالها
بالحبر بالكلمات خضت حروبا»
أو قصيدة زنبقة الآباء:
«تحيا الجزائر أولا وأخيرا
شاخ الغرام ولا أزال صغيرا
تحيا الجزائر في القلوب جميعها
طال الهوى بقي اللسان قصيرا»
هذا الدوي أي دوي الجزائر أو دوي الوطنية قد ينظر إليه البعض نظرة دونية من باب النزعات الشعرية الحديثة، ولكنه ضروري في هذه المرحلة. فشعرنا العربي يحتاج موجة جديدة من الوطنية… وأقطارنا ومدننا في حاجة إلى هبة الشعراء للغناء على أبوابها وإثارة أمجادها إيقاظا للذاكرة وللهمم الوطنية المستهدفة خارج النص.

كاتب وناقد تونسي

رياض خليف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية