تعد رواية «ما تبقى لكم» للمبدع الفلسطيني غسان كنفاني (عكا 1936- بيروت 1972) من النصوص التي تستجيب للدرس النظري في المعرفة الروائية، التي تفترض- منهجيا- اعتماد النص الأكثر قدرة على تمكين الفهم البيداغوجي من التمثل المعرفي والنظري للجنس الروائي، من أجل إنتاج وعي بمنطق اشتغاله.
كل النصوص مؤهلة للاقتراب من مفهوم الرواية، وكلها تشكل موضوعا للقراءة النقدية، غير أن الأمر يختلف عندما يتعلق الموضوع بالدرس التعليمي- العلمي، الذي تكون له أهداف منهجية ومعرفية.
ولهذا، فقد نلتقي بنصوص كثيرة، تجلب المتعة عند قراءتها، وتُنتج فرحا جميلا عند التواصل مع حكايتها، وقد تكون حاضرة بقوة في المشهد الثقافي، واسم مؤلفها له صيت كبير في الإعلام، والمهرجانات، وقد تحظى بقراءات متعددة ومتنوعة، وتكون محور أبحاث تُلقى في لقاءات ومؤتمرات أدبية وثقافية، غير أنها قد لا تصلح خطابا بيداغوجيا للمعرفة الروائية، في درس تعليمي أو جامعي، لأن منهجية التدريس تلفظها من مواد الفهم، وتُخرجها من عينة النصوص التي يشتغل بها التحليل التعليمي والعلمي، من أجل فهم تكوَن خطابها، وهويتها الأدبية.
لا يعني هذا إقصاء لها في عملية تدبير الفهم التعليمي والعلمي، كما لا يُقصد بذلك إلغاء استحضارها في عملية الوعي بمنطق الجنس الروائي، فقد تحضر تلك النصوص المُمتعة باعتبارها دعامات للمعرفة، وتُساهم في إنتاج المتن المُساعد للفهم، من دون أن تتمكن من القدرة على تقديم خطابها باعتباره وسيطا بيداغوجيا ومعرفيا لتمثل معنى الجنس الأدبي الروائي، وتحديد عناصر نظامه، والوعي بطبيعة بنائه، والتمييز بينه وبين باقي الأجناس السردية، بعيدا عن الحكاية التي ليس بمقدورها أن تحمل معنى الجنس الأدبي، وتنتج وعيا نظريا بالرواية.
غير أن هذا التوجه التعليمي- النظري لهذه النوعية من النصوص التي تحقق المطمح البيداغوجي، لا ينبغي أن تُوصف بالنص «الجيد»، لأن تعبير» الجيد» غير وارد في المعجم العلمي- التعليمي، إنما الأمر يتعلق بأكثر النصوص قدرة على إيضاح هوية المعرفة الأدبية – موضوع الدرس، بطريقة تقنية، والتي تتحقق روائيتها عبر خطابها السردي، وليس بالمضمون الذي ليس من شأنه أن يُقدم لطالب المعرفة الروائية، معنى الجنس الروائي.
بتأمل الخطاب الروائي لـ»ما تبقى لكم»، نلاحظ أن طريقة تصريف حكايتها سرديا، مؤهلة – بمستويات متعددة- لتكون عملا منهجيا لتحديد معنى الجنس الروائي، وتعيين عناصره، والوقوف عند تحولاتها وهي تبني الحكاية.
كما أن طريقة تنظيم المقاطع السردية، وعمليات الانتقال بينها وفق حركية داخلية، لا تعتمد التكرار، تسمح بمتابعة الفهم بدون إكراهات التورط في الاطناب.
تبدو «ما تبقى لكم» على مستوى الفضاء النصي صغيرة الحجم بالمقارنة مع الاعتقاد السائد بطول مساحة الرواية، التي يعتبرها البعض معيارا تمييزيا لها عن القصة القصيرة، كما يجعل من عنصر المساحة ضمانة للروائي لكي يسترسل في الحكي، ويصف كما يحلو له، ويعدد من شخصياته، ويسمح لها بالتحرك أكثر.
غير أن طول المساحة ليس من شأنه أن يُحدد معنى الجنس الروائي، لأن الأمر يتعلق بالبناء أكثر من الكم، وبالنظام أكثر من الفوضى، وبالوظيفية أكثر من الوجود العددي لعناصر الحكي.
ولهذا، عندما يتم البحث في العنصر الأكثر إيضاحا لمنطق الجنس الأدبي، يتم اعتماد مفهوم «الخطاب» الذي يعبر عن مظاهر تحقق إبداعية الرواية، من تشخيص، وتخييل، وتنظيم. يتميز بناء « ما تبقى لكم» بانتظام منسجم في مقاطعه السردية. كل مقطع مبني بشكل وظيفي، لا يستهلك ما سبق، يأتي مُقتصدا في سرده، لكنه مكثف دلاليا، أحيانا تعتمد المقاطع تكرار بعض الجمل أو الكلمات( تدق. تدق. تدق)، ولكن حضورها غير مُستهلك لأن التكرار يمنحها كل مرة وظيفة تُعمق الوعي بها، مثلما يحدث مع الساعة الحائطية، التي تظل تدق تدق، لتُحدث من جهة إيقاعا مسترسلا يُربك الصمت في البيت في غزة، ومن جهة ثانية يشير إلى زمن عبور حامد الصحراء.
ولعل أهم مدخل لبلاغة خطاب « ما تبقى لكم» يتجلى من بداية الافتتاح السردي الذي تتحدد فيه الرؤية السردية، من طبيعة حضور شخصيات النص، ووضعية الفضاء الروائي، ونظام السرد.
فالسرد يأتي مُشبعا بذاكرة سابقة، أو بتعبير آخر، يجيء السرد تتويجا لحالة تاريخية، وتشخيصا لرؤية حكاية «ما تبقى لكم».
لا يعني ذلك، أننا بصدد ما يصطلح عليه برواية الأطروحة، التي تقف فيها الرواية عند إعادة حكي شيء جاهز، أو تنطلق من فكرة جاهزة، وتُعيد حكيها خارج الامتثال لمنطق التخييل، فتضيع الرؤية وتحضر الحكاية، إنما نلتقي- في مستوى نص كنفاني- بما يمكن تسميته بامتلاء السرد بالرؤية.
ساهم هذا الامتلاء الدلالي في جعل كل عناصر السرد تشتغل بوظيفية، مما انعكس على بناء المقاطع السردية التي جاءت مُقتصدة غير أنها مُكثفة سرديا، وعرف نظام ترتيبها إيقاعا حركيا، يُحدث الصوت وصداه، كما تجلى في تركيبة الجملة السردية التي تمت بعناية روائية، تُشخص الحالة والحركة والحدث بإيقاع متواز، يجعل كل جملة ذاكرة للسرد، عند إهمالها أو تجاوزها، ينفلت خيط الوصل من منطق السرد، كما أن نوعية موقع الرؤية الذي تحكم من جهة في منظوره فضاء الصحراء» وفجأة جاءت الصحراء» ، ومن جهة ثانية زمن الساعة الحائطية «تدق. تدق. تدق داخل النعش الخشبي المعلق أمام السرير»، جعل الشخصية الروائية (حامد، زكريا، مريم) تتحول إلى منظور إليه من قبل الفضاء/الصحراء، ومفعول في تاريخه اليومي، ومزاجه النفسي من طرف الساعة/ الزمن.
فالشخصيات تأتي في الحكاية مأزومة بوضعيات اجتماعية تخص طبيعة العلاقات بينها (حامد/مريم، مريم/زكريا، حامد/زكريا. . . )، وتتحرك من أجل الحسم في هذه المشاكل، غير أن السرد يُحولها إلى موضوعات وفق منظور الفضاء/الصحراء والساعة/الزمن، مما ينعكس على تغيير المعادلات، وإنتاج حالة تاريخية جديدة، تجعل الشخصية حالة مُقبلة على الاحتمالات في المواجهة و التحدي والمقاومة، بل تكتشف عن ذاتها ووعيها وعلاقتها بالأرض والزمن الفلسطينيين.
حقق السرد في «ما تبقى لكم» هذا الامتلاء في المنظور عبر وسائط منها، العمل على أنسنة الفضاء والزمن، وتحويلهما إلى شخصيات رئيسية وفاعلة في الحكاية، ومؤثرة في منطق الأفعال، وفي موقع الشخصيات وأفقها.
فقد اشتغل السرد منذ الافتتاح على أنسنة الفضاءات، وإعطائها طابعا إنسانيا، وجعلها تأخذ موقعا، وتُنجز من خلاله الأفعال، وتُطور الأحداث، وتُقيم علاقات مع باقي شخصيات الحكاية، وتفعل فيها. فالصحراء تتحول إلى شخصية جوهرية في مسار الحكاية، والساعة تُصبح فعلا قائما ضد الذاكرة.
جاءت في المقاطع التالية من الرواية: «رآها الآن لأول مرة مخلوقا يتنفس على امتداد البصر، غامضا ومريعا وأليفا في وقت واحد، يتقلب في تموج الضوء»، «وتراجعت أمامه المدينة حتى استحالت إلى نقطة سوداء في نهاية الأفق»، «وأمامه على مد البصر، تنفس جسدُ الصحراء فأحس بدنه يعلو، ويهبط فوق صدرها.
تمثل هذه المقاطع السردية التي جاءت مع الافتتاح النصي طبيعة السرد، والذي يجعل الرؤية – التي غالبا ما يتم الوصول إليها في العمل الروائي- هي مفتاح السرد، وقانون التصريف، ولغة الحكي، ومنطق التشخيص.
تصبح الرؤية أكبر من السرد، بل تتجاوزه لأنها لا تحضر مشروعا روائيا، إنما تدخل مجال النص آلية إجرائية. إن الصحراء التي تحضر في وعي زكريا فضاء للموت والرعب والمجهول، ولهذا ظن أن حامد لن ينجح في عبورها، وستبلعه «إن الصحراء تبتلع عشرة من أمثاله في ليله واحدة» ستستقبل حامد بذراعين مفتوحتين، وترافق عبوره بعدما وجدها» واسعة وغامضة، ولكنها أكبر من أن يحبها أو يكرهها. لم تكن صامتة تماما، وقد أحس بها جسدا هائلا يتنفس «احتضنته، بعدما لم تأبه أخته «مريم» لرحيله، وظلت صامتة.
ينتظم إيقاع السرد وفق جملة سردية، تتجه في خطين متوازين، واحد يعبر الصحراء التي تتحول إلى حالة إنسانية تتشرب حامد، وتمنحه منطق العبور بدون رعب وخوف وتردد، وخط تُربكه الساعة الحائطية التي ظلت معلقة بالبيت، بعدما غادره حامد، تدق بإيقاع مسترسل رتيب يذكر مريم/زكريا بصعوبة النسيان، ويُحقق تواصلا تاريخيا بين البيت والصحراء. تُقدم «ما تبقى لكم» لدارس الرواية محطات عملية وتقنية لتمثل عناصر الرواية، وفهم عمليات الانتقال من الحكاية إلى الخطاب، وتحقيق الخطاب للرؤية التي تُصبح مادة للوعي التاريخي. شكلت إبداعات غسان كنفاني تحديا تاريخيا في قضية فلسطين ليس من مدخل الحكاية، إنما من خطابها الذي انتصر للأرض عندما جعلها تتكلم فلسطين.
روائية وناقدة مغربية
زهور كرام
ماشاء الله تحليل رائع لهذه الرواية ، يستفيد منها القارء عند قرائتها ، وفقك الله مع المزيد من العطاء
ماشاء الله وفقك الله
ماشاء الله وفقك الله استاذتي
و أنا أقرأ تحليل رواية ماتبقى لكم لغسان كنفاني التي طلبت منا الأستاذة أن نقرأها أجد المقال للأستاذة سبحان الله وفقك الله أستاذي بالمزيد من تألق و العطاء
ماشاء. عليك أستاذتي مزيدا من التألق والعطاء وفقك الله لكل خير