سنة عربية أخرى للنسيان… الرقابة وتضييق مساحات الإبداع

سنة أخرى تمضي ولا شيء عربياً في الأفق. حروب كثيرة تتوالد بسرعة، بلدان تتشظى مثل القنابل الموقوتة، ودم عربي يسيح بشكل لم يعد يثير انتباه حتى نشرات القنوات الصغيرة. وتحول تنظيم داعش إلى آلة تدمير حقيقية لكل ما ينبض بالحياة، واتسعت رقعته ليشمل البلاد العربية مشرقاً ومغرباً. ومثل الكرزة على الغاتو، جاء انهيار أسعار النفط ليضع الدول العربية التي تعيش على الريع النفطي في حالة غير مسبوقة من الخطر الاجتماعي، وينبئ بهزات عنيفة ستأتي على ما بقي واقفاً من البلدان العربية التي أصابتها عدوى الفوضى الخلاقة مثل الوباء، لدرجة إبادة كل حياة وأفق فيها.
التقشف الإجباري سيدفع بها إلى مواجهة هزات اجتماعية شديدة الخطورة قد تكسر كيان الدولة القائم أو تنهكه وتجعله أكثر هشاشة. وعلى بلد مثل الجزائر الناجي بأعجوبة من العواصف العربية أن يثبت قدرته على التعامل مع الظاهرة بالكثير من الذكاء والخلق والديمقرطية أيضا، للخروج بسلام من عنق زجاجة وضعت فيه منذ بدء الثورات العربية. الجزائر تملك سبل الخروج شرط اعتماد الشفافية في التسيير وفصل الدولة كمؤسسات، عن حكومات تذهب وتجيء، والتقليل أيضا من الأنانيات السياسية المترسخة.
ولأن الجزائر دفعت الثمن غالياً في وقت مبكر في مواجهة الإرهاب، ليس من حقها الإخفاق. سنة أخرى تمضي ولا شيء عربياً في الأفق. سنة تختصر أكثر الآمال وتدفع بقوة الأمراض المتراكمة في الجسد العربي نحو المزيد من المهالك والمجاهل التي تلوح في الأفق. لم تكن السنة الماضية برداً وسلاماً على العالم العربي. فقد استمر البلدان العربيان الأكثر تقدماً وتحضراً، في المزيد من التمزق: العراق لم يقم من التدمير الأمريكي في حربين خليجيتين لم تورثا الا الدمار والصراعات الداخلية الكامنة منذ زمن بعيد، بينما يتسع يوميا تمزق سوريا، وتكبر آلامها بلا أفق لأي حل ممكن، قبل أن يجهز تنظيم الدولة الاسلامية على اخر ما تبقى من حياة ممكنة.
تقسيمات ارتسمت في الأفق قبل عشرات السنينن، زكتها الأيديولوجيات الاستعمارية والصهيونية أيضا، وبدأت تتأكد شيئا فشيئا مع مرور الوقت وانهيار كل المشاريع السياسية والتنموية السابقة. ونار الحرب الأهلية لم تتوقف عربياً، بل أكلت نيرانها الأخضر واليابس وتأكل الآن اليابس واليابس. حرب جهوية أخرى تسبب فيها الانقلاب الحوثي على شرعية الدولة كيفما كانت هذه الأخيرة. حرب أخرى تضاف إلى سجل الحروب في تلك المنطقة. ومهما كانت وجاهة هذه الحرب، فالشعب العربي واليمني تحديدا يدفع ثمنها بالمزيد من التدمير للبنيات التحتية، او ما تبقى منها. لا توجد حروب نقية مهما كانت عدالة خطابها. وعلى الرغم من شيوع حمل السلاح في اليمن فقد ظل ملتزماً بحد أدنى من السلام المدني، الا ان الحرب الأخيرة أعطته نوعاً من المشروعية بالخصوص بالنسبة للناس الذين ظلوا مسالمين حتى الآن.
الخارطة الليبية التي تتقاسمها شرعيتان وثلاث مناطق، فشلت كل الحلول الوطنية والجهوية والأممية في بلورة حل يرضي الجميع. منذ مقتل القذافي بهمجية منعت قيام محاكمة تثبت بأن البديل القادم سيكون دولة مؤسسات وليست سلطة المجموعات الهمجية المسلحة، بحيث انتفى حتى هدف الثورة الأسمى لتغيير نظام رعوي بلا قانون، بدولة معاصرة وجديدة سيدتها العدالة والحق والتداول في الحكم. والانتهاء من سلطة الحاكم المطلق. الحكم المطلق يؤدي، في حال زواله السريع، إلى الفوضى العارمة وليس الخلاقة، التي تقضي نهائياً على الدولة الناظمة.
مصر التي كانت دائما الرائدة في التحولات العربية الكبرى، لم تشذ عن القاعدة العربية العامة. فقد شهدت هذه الأخيرة، تفشي ظاهرة العنف السياسي الذي بدأ يتحول الى حالة عسكرية منظمة وبداية انتقال تنظيم الدولة الاسلامية الإرهابي إلى قوة عسكرية ضاربة، وإلى حقيقة مادية بالخصوص بعد العمليات الإجرامية ضد التجمعات السكنية في صحراء سيناء والقاهرة، والطائرة الروسية في شرم الشيخ، لدرء روسيا التي دخلت بقوة عسكرية إلى الصراع السوري الغربي الداعشي.
سقوط طائرة عسكرية روسية بواسطة السلاح الجوي التركي، كان مؤشراً آخر لتعقد أوضاع المنطقة التي كان يتزعمها الحلف الأطلسي قبل التدخل الروسي كلاعب مهم للدفاع عن مصالحه المادية والعسكرية الاستراتيجية التي أصبحت مهددة دوليا بعد انسحابه من المشهد السياسي والعسكري العام. وفي كل الحالات يدفع العرب الفاتورة بقسوة، بشريا وماديا أيضا.
سؤال بسيط لماذا لم يُقَل لنا حتى اليوم كم كلفت ماديا وبشريا ثورات الربيع العربي؟ وكأن الثورات العربية لم تكن الا استراحات دموية قبل أن تعود الأوضاع الاجتماعية والسياسية إلى ما كانت عليه نسبيا. ويحتاج النظام العربي في عمومه إلى حل مشكلتين كبيرتين: الحل الديقراطي والاجتماعي. بدون ذلك لن تكون الافاق الا مظلمة عربياً.
على الصعيد الأوروبي لم تكن الصورة العربية جميلة، فقد شهدت المزيد من الانهيارات. وحصول التجربة التونسية، من خلال رباعيتها، على جائزة نوبل للسلام، لم تكن كافية لتحسين صورة العربي عالمياً وفي المخيال الغربي. بل أكدت على الصورة المصنّعة عنه بالخصوص بعد تفجير متحف الباردو وفندق سوسة ومقتل الكثير من السواح الأجانب. عمليات تفجير مسرح البتاكلون وعدة مواقع في باريس، ساهمت في ظلامية الصورة العربية التي استثمرتها أطراف تنتمي إلى اليمين المتطرف وغيره، مما دفع بالمسؤولين الفرنسيين إلى التشديد أكثر على القوانين، بل العمل على تغيير بعضها، مثل قانون الجنسية الذي ما يزال يثير جدلا قانونيا وإنسانيا كبيرا. مما وفر مناخا واسعا لانتشار الاسلاموفوبيا والعنصرية التي تبعتها اعتداءات كثيرة على الأفراد والمساجد.
حتى الأدب، بدل أن تكون رؤيته أبعد دخل غمار اللعبة فتحولت إلى سلاح آيديولوجي يبرر الإسلاموفوبيا بل ويزكيها. بعد رواية الخنوع لميشيل هولبيك التي افترض فيها وصول الاسلام السياسي إلى السلطة بكل آلته التدميرية، ها هو كاتب من الثقافة العربية والإسلامية يقوم بما لم يقم به أحد قبله. لم يبخل بوعلام صنصال في روايته الأخيرة 2084/ نهاية العالم، من تنشيط فكرة الخوف من الآتي. فقد افترض هو أيضا حاكما إسلاماويا يصل الى السلطة في فرنسا ويسيرها وفق قوانين الشرع والبدائية. وكأن أدخنة النار لا يعقبها الا الرماد. فقد غيب الموت بعض صناع الوجه العربي الإيجابي والحي. أسماء ظلت من خلال الفعل الثقافي تحاول أن تفتح في عمق الصخر، منافذ للنور الذي يبتعد كل يوم قليلاً. فقد أعدم قتلة «داعش» الخبير الدولي في علم الآثار، والمدير السابق للآثار في مدينة تدمر خالد الاسعد البالغ من العمر 82 سنة، بقطع رأسه وتعليق جثته على عمود كهرباء، للدفع بالعرب إلى الوراء وإلى الموت المنظم. ليجد العرب أنفسهم بعد سنوات قليلة، ليس فقط بدون بلدانهم ولكن أيضا بلا ذاكرة كانت تضعهم في مصاف الدول الحضارية. رحيل الكاتبة الجزائرية الكبيرة، وعضو الأكاديمية الفرنسية والمرشحة لنوبل والحاصلة على جائزة السلام الكبيرة، آسيا جبار، خلّف وراءه أسئلته اللغوية والثقافية الأكثر تعقيدا. وخطف الموت أيضا المفكرة العربية الإشكالية، فاطمة المرنيسي، التي اشتغلت على النص الديني في أفقه المنفتح والوضعية النسوية العربية. وكأن الوضع العربي لا يستقيم إلا إذا محا كل ردة فعل ثقافية، فقد ضيّق من مساحة الديمقراطية أكثر بتكفير الأدباء والمثقفين، ومحاكمة الكثير من الشعراء بسبب قصائدهم وكتاباتهم. تضييق مساحة النور هو أهم المخاطر المحدقة بالعالم العربي مستقبلاً. فقد أصبحت حركة الفنون والابداعات وانتقالها الحر بين أيدي الرقيب المتخلف الذي يحدد ما يجوز، وما لا يجوز، وهذا يقتضي بالضرورة وجود ردة فعل قوية من المعنيين بأمر الإبداع، للأسف نراها اليوم في أوروبا تضامناً مع العرب، ولا نراها عربياً.

واسيني الأعرج

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول كمال الهردي - اليمن:

    كل الفنون واﻵداب الراقية ﻻ يمكن إلا أن تتسق تماما” مع جواهر الدين. من ﻻ يفهم روح الدين لن يطلق إلا أحكاما” بائسة على صنوف التعبير الإنساني البديع كالرسم والنحت والشعر والموسيقىوالمسرح والدراما والأدب السردي والنظمي…

إشترك في قائمتنا البريدية