عود على بدء، يصدر مؤخرا في الجزائر كتاب لشخصية تقلدت منصبا عاليا في المجلس الدستوري، صحيح فيه الكثير من المغالطات التاريخية، والأحاجي المصطنعة لتلميع صورة الرئيس الحالي، حتى يغطي كاتبه جرمه بخصوص شرعية انتخابات 1999، فضلا عن إغفاله عدم شرعية حل البرلمان واستقالة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد 1992، والتعمية على كل ما ترتب عن ذلك من جرائم دستورية، كانت محصلتها كارثة لا تعدل في حجمها وخطرها إلا كارثة الاحتلال الفرنسي للجزائر، ولولا المبالغة لقلت أكثر؛ لن أدخل في تفاصيل نقد أوجه الباطل الذي حشا به المؤلف، لكن الذي استرعى انتباهي، هو تجرؤ الكاتب كأول شخصية شغلت منصبا رفيعا في المجلس الدستوري، تكشف النقاب بإسهاب عن تغول جهاز المخابرات الجزائرية، وعصف المنتسبين إليه بكل القوانين والأعراف، فضلا عن تسلطه المشين على جميع مفاصل االلانظامب الجزائري، ليخلص صورته بدولة فوق الدولة، ودوره بعصابة إجرامية عملت على تقويض أركان المؤسسات، وهدم كل البني التي من شأنها خدمة المجتمع. توصيف جهاز المخابرات الجزائرية ليس مستغربا، فقد أشرت له من قبل في عدة مقالات صدرت على صفحات ‘القدس العربي’؛ وطالبت مرارا بضرورة وضع المؤسسة العسكرية والأمنية تحت الرقابة البرلمانية، وإعادة دورها الأصيل وفقا لمواد الدستور والقانون الجزائري، خدمة للشعب والوطن، وليس خدمة لمافيا المال والسياسة؛ لكن أن يشهد اليوم شاهد من أهلها على دورها من المجلس الدستوري، ويوثقه في كتاب ينشر، واللافت في وقت غاية في الحرج تمر به الجزائر، نظرا للشائعات التي تملأ سماءها بشأن صحة رئيس الجمهورية، التي إلى غاية كتابة هذه السطور تشير الى أنها من سيئ إلى أسوأ، كما نقلت مجلة اLe Pointبالفرنسية يوم 17/05 نقلا عن مصدر رفيع فرنسي؛ والحال أن صاحب الكتاب ما كان بإمكانه توثيق ذلك، نظرا لانتسابه لهذا النظام الذي أقر بأنه تحت قدم جهاز المخابرات، ما لم يكن وراء الأكمة ما وراءها. لقد بات المواطن الجزائري لا يخامر يقينه شك، بأن الفضائح التي تتولى نشرها وسائل الإعلام المحلية، أو كتب تحتوي على معلومات خطيرة تمس مباشرة مؤسسات حساسة، إنما هو صراع أجنحة، وتناطح بين دوائر السلطة الفعلية في الجزائر، يسعى من يقف وراءها، لكسب مساحات أكبر من ناحية النفوذ والسلطة، أو درء لكشف مستور قد يضر بمصالحه لدى من يرتهن إليهم في الخارج؛ ولا علاقة لهذا الاحتراب االمعلوماتيب بمصالح المواطن أو الوطن، ناهيك عن المصداقية والاحترافية والمهنية؛ لهذا فان ما يشعر به المواطنون اليوم من قلق شديد حيال مستقبل الوطن، نتيجة طبيعة هذا الصراع المسف، خاصة وهو يتابع منذ بضعة أسابيع تصاعده بشكل خــــطير للغاية، بدءا بفضائح تخص أقرب شخصية لرئيس الجمهورية، ثم ما لبث أن انتقل عبر الصحافة المقروءة إلى شخص الرئيس نفسه، أياما قليلة قبل إصابته بالجلطة الدماغية. من هنا أوكد أن الأعمال التي يقوم بها جهاز المخابرات الجزائرية حاليا، من رسم سياسات الأحزاب وإعادة تأطيرها وهيكلتها بما يتفق في منظوره بمصالح االلانظام’، سيهدم المعبد على رؤوس الجميع؛ فالملاحظ أن تجميد احزب التجمع الديمقراطي’، وإخراج احزب جبهة التحرير الوطنيب من العمل الفعلي السياسي، بعد الانقلاب المشؤوم على أمينه العام عبد الحميد مهري، وحشو الحزب بكل متسلق ومتسوق؛ والعمل الآن حسبما تقتضيه متغيرات العالم العربي، على تزيين صورة احزب اسلاماويب على أنه الخيار الوحيد المتبقي أمام الشعب، لأنه الاستثناء دون غيره من قام بتغيير رئيسه بشكل ديمقراطي، وهو ما يتقاطع عمليا مع خيارات الولايات المتحدة. والحال أن جهاز المخابرات يعلم كما بتنا نحن على علم، بأن هذا الحزب ورجاله، قاموا بتغطية كل جرائمه اللاقانونية واللادستورية، التي تضمنها كتاب رئيس المجلس الدستوري، ولم يذكر منها إلا رأس جبل الجليد، وأضفى شبه شرعية على كل سياساته الدكتاتورية، وعمليات الفساد التي نقلت الجزائر من حال فساد الدولة إلى حال دولة الفساد بامتياز، وقد نال نصيبا منها رئيس الحزب السابق، كما أثبتت وزارة العدل السويسرية والنيابة العامة هناك، وكشفت تفاصيلها بعـــــدئذ الصحافة المحلية، تمهيدا لتنحيته واستبداله بمن لا يقل عنه وصفا وسلوكا، اقتضت مصلحة جهاز المخابرات كما يتصور عدم الكشف عنها حاليا، لتبقى ورقة ابتزاز وتحكم كما جرت عادة السوء هذه في أجهزتنا. أخيرا، أذكر وكما تعلم كل قيادات هذا الوطن المنكوب، أن الكاتب يعارض جميع هذه الأحزاب من دون استثناء، ويحمل قياداتها كما السلطة مسؤولية ما آلت إليه أوضاع الشعب والوطن، بما فيها تلكم التي حلت مباشرة بعد انقلاب 1992. وأكرر دعوتي من دون ملل، للمسؤولين من الصف الثاني، وبالأخص الثالث إلى النهوض بما أنيط بهم وأقسموا أغلظ الأيمان أن يلتزموا به من حماية مصالح الشعب والوطن؛ وهم يرون الآن كما يرى عامة المواطنين، تكالب الوصوليين ومافيا السياسة والمال، على تدمير ما تبقى من أمل لنجاة البلد، هذا الأخير الذي طالما ترصده أعداء شمال البحر المتوسط، وأضيف لهم في زماننا الأغبر أشقاء لا يملأ بطونهم إلا التراب؛ وإلا فالكل سيدفع الثمن باهظا، ومن يتوهم أن حالنا لن يكون من حال ليبيا اليوم واليمن و سورية، فقطعا هو أعمى.