تطريز على عباءة القبيلة!

حجم الخط
2

ينسب إلى ونستون تشرشل انه قال ذات يوم بأنه لو سئل عن جنسيته لأجاب على الفور انه من بلد شكسبير، وحين سمع ستالين تلك المقولة لم يكررها قائلا بأنه من بلد تولستوي او جوركي او اي كاتب روسي، ليس لأن مسقط رأسه جورجيا، بل لأنه اراد ان يذهب إلى ما هو أبعد فكان خطابه الشهير المشحون بكبرياء قومي عندما اقترب الالمان من موسكو والذي قال فيه مستنهضا روح المقاومة .. ان الالمان يقتربون من قبر ديستويفسكي، وتشرشل كان رساما وكتب العديد من القصص، كما ان ستالين له ابحاث في اللغة وهو كما كتب اسحق دويتشر سيرته ليس قابلا للاختزال في صفة واحدة هي صفة الطاغية او الديكتاتور، فلماذا اعترف هؤلاء في ذروة السلطة بجدوى الادب؟ ثم لحق بهم الجنرال ديغول الذي علق فور اعتقال سارتر وهو يوزع نشرة محظورة لهنري دي يوبل قائلا: اخرجوه على الفور لأن ما من احد بمقدوره ان يسجن فرنسا، ولو شئت الاستطراد في هذه الامثلة لما انتهيت، لكن السؤال الآخر المزمن هو لماذا استخفت السلطة السياسية العربية بالادب ومجمل مهنة الكتابة على نحو غير مسبوق؟ ولماذا تحولت مصائر الكتّاب حتى في الثقافة الشعبية إلى سلسلة من المآسي المثيرة للاشفاق بحيث يقال ان فلانا أدركته مهنة الادب، أي عرّض مصيره لنهاية غير سعيدة، وربما جاع او مات منسيا او مرّت عليه العجلات كلها.
واذا كان لا بد من امثلة فهي ايضا تبدأ ولا تنتهي من مصير خليل مطران الذي ترجم شكسبير إلى العربية، حتى الكواكبي الذي لم يعثر ذووه على قبره وليس انتهاء بعبد الحميد الديب ونجيب سرور ومحمد عبد الحليم عبد الله، الذي صفعه سائق باص وما ان وصل بيته حتى مات كمدا!
هل نذكر السياب ايضا، والثلاثة الذين مشوا في جنازته وصلّوا عليه تحت سماء ممطرة بعد رحلة عذاب أتاحت لستيفن سبندر ومنظمة الثقافة الحرة استثمار ضعفه ومرضه ثم يكتب كتابا نتمنى لو انه لم يكتبه بعنوان كنت شيوعيا، ليس دفاعا عن الشيوعية فهي ليست معصومة من النقد شأن الايديولوجيات كلها، بل لأن الاستقالة من حزب وبالتالي نقده او حتى نقضه له اساليب اخرى من طراز ما كتبه البير كامو وروجيه غارودي وكوستلر وآخرون.
ويذكر الراحل احسان عباس ان المصادفة العجيبة كانت يوم دفن السياب حيث كان اثاث بيته معروضا للبيع بعد الحجز عليه! وحين حاولت السلطة الاعتذار للسياب في مهرجان مهيب علّق شاعر بريطاني قائلا بانه يتمنى ان يعيش انكليزيا ويموت عربيا لأن للعرب شغفا بالموت، وربما لهذا السبب يحتفلون بذكرى رحيل كتابهم وليس بذكرى ميلادهم وهذا بالطبع شجن آخر نعود اليه ذات موت!
ومن اتيح له ان يزور متاحف تضم آثار الادباء في مختلف عواصم العالم لا بد انه احس بأسى عميق وهو يتذكر البيوت التي عاش فيها ادباء عرب، فقد أُهملت إلى ان تحولت إلى اطلال ثم شيدت على انقاضها عمارات يديرها سماسرة لا يفرقون بين اسم شاعر من بلادهم واسم نوع من الصابون او المعجنات. والتحليل الاولي لهذه الظاهرة له بُعدان، سياسي موروث من ايام العرب ومن اوصى احفاده بالمسألة بمعنى التكسب والكدية وليس بالمعنى الشكسبيري الوجودي عن الكينونة والعدم، والبعد الآخر سايكولوجي افرزه تاريخ تحالف فيه الاستبداد مع الأمية وفقه الاحتكار والاقصاء.
سياسيا، رسخ شعراء النقائض تقاليد تختصر القائل إلى مجرد أداة أو بوق مثلما رسخت ايام العرب مفهوما للكتابة يتلخص في مهنة شاعر القبيلة، لهذا لا فرق بين حفيد احترف الدفاع عن اخطاء سلطة معاصرة وبين جد أهان بني عبد مدان صباحا ومدحهم مساء مقابل كيس دراهم، فهم في الصباح غلاظ الاجسام كالبغال ولهم احلام عصافير لكنهم اصبحوا في المساء اهل بيان وبلاغة وكرم لا يطاول!
ولو ذهبنا إلى ما هو ابعد نجد ان الثورة عوملت ايضا كممدوح بطبعة معاصرة، وكذلك الحزب ما دام المديح في هذا السياق هو وجه العملة الآخر مقابل الوجه الاول وهو الهجاء.
ورغم ان ستالين الذي اقترن اسمه بالحكم الحديدي والشمولي وعبادة الفرد استدعى اعمق ما يثير المقاومة لدى بلاده وهو اقتراب الغزاة من قبر ديستويفسكي إلا أن من حولوه إلى امثولة في الاستبداد في العالم العربي لم يتذكر احد منهم قبرا بعثر الغزاة عظامه، لأنهم لا يعرفون ما اذا كانت الاسماء التي يسمعون بها من كُتّاب بلادهم من الاحياء او الموتى، ومن سائقي الشاحنات او تجار السلاح، ربما لهذه الاسباب مجتمعة وسواها ايضا، وجد الكاتب العربي نفسه يطحن بين سندان الامية التي تنكره وبين مطرقة السلطة التي تسعى إلى جعله مجرد مسمار او قطعة غيار في إعلام اعمى احترف تدوير المربعات كي لا تبقى هناك زاوية واحدة سواء كانت حادة او منفرجة.
وقد يقول لنا البعض ان العرب المعاصرين بدأوا يقلعون عن تلك العادة العلنية الرديئة، ويودعون ادبائهم بتظاهرة صاخبة تنتهي عند بثّها على الشاشات وليوم واحد فقط.
لهؤلاء نقول ان من يكرمون الطائر ويسحقون بيضه في العش انما يمارسون حيلة اسمها الترميز، اذ يكفي تكريم واحد للقول انه تكريم للادب كله، فالترميز خطر إبادي يهدد المجتمعات حين يكون الهدف منه التحايل لتكريس القاعدة من خلال استثناء رمزي!
ان مجتمعات تعيش في حقبة ما قبل الدولة وما قبل الثقافة بوصفها مرادفا للحضارة وترتهن للضرورة لا للحرية انما تواصل التطريز على عباءتها القديمة!

كاتب أردني

خيري منصور

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رافت العيص - فلسطين:

    استاذنا خيري منصور الآفة ليست معاصرة بل قديمة، تتعلق بنكران الآخر. الطرف الضعيف بالمعادلة هو الكاتب والشاعر والمفكر والفيلسوف وصاحب الرأي. لذلك كان مصير ابن المقفع وابن رشد والحلاج مأساويا تارة باسم الزندقة أو الالحاد او التحريض على صاحب السلطان والحاكم بأمر الله. مأساة قديمة تتجدد في كل عصر وزمان. هو حقا التطريز على عباءة قديمة جسدها الشاعر نزار قباني بقوله:-
    ما الشعر ما وجع الكتابة مــا الرأي
    وأول ضحــايانــا هــــم الكتاب

  2. يقول مزهر جبر الساعدي / العراق:

    أستاذنا العزيز عشت ودمت كما أنت دائماً ، تطرز على الورق ، كلمات مدادها من دم القلب المتكون من أوتار أدميه ، أنتجتها حرارة الفكره ، الفكره المفتوحه على جميع الرؤى …. صناعة المعنى … لك محبتي من عمق روحي .

إشترك في قائمتنا البريدية