الكاتب الكيني نغوجي واثينغو والعولمة الثقافية

حجم الخط
0

ثمة جدل كبير فيما يتعلق بالعولمة، وتداعياتها ثقافياً، وبوجه خاص الثقافات المهمشة، أو تلك الواقعة على التخوم والأطراف – من منطلق التوصيف الغربي- ويتحدد هذا الجدل تبعاً لمدى تأثير تلك الثقافات، وإسهاماتها، إذ غالباً ما كانت تعدّ متواضعة الإمكانيات شكلاً ومضموناً، كونها تفتقر إلى المنظور الشمولي الإنساني، ولكونها تنتمي إلى عالم متقشف، محدود الثروات المعرفية، فهو غير قادر على صوغ البنى الثقافية الكونية بمظاهره المؤسساتية، إذ إن المعطى الحضاري لهذه الثقافات لم يتبلور بعد، فالتجربة لا تؤهلها لأن تصوغ وعياً متقدماً، وهذا تعزز بعد هيمنة عدد محدود من اللغات التي تعدّ عالمية، كالإنكليزية والفرنسية والألمانية والروسية، مما عمّق فقدان التواصل بين اللغات والثقافات خارج الإطار الأوروبي.
الشرق، افريقيا، العالم المستعمَر، هذا الوعي المتجانس معرفياً، ينتمي إلى نظرية الفقير كما يحددها الكاتب الكيني نغوجي واثينغو، غير أن هذه النظرية ليست طارئة، إنما نجد صداها في أعمال سابقة حيث أشار لها من قبل كتاب بعنوان «فقر النظرية» لإي .ب. تومبسون 1978، والذي جاء رداً على كتابات ألوي ألتوسير في نقده لكتاب آخر ـ يعنى بذات الموضوع- ونقصد كتاب «فقر أو بؤس الفلسفة» لكارل ماركس، هذا التسلسل في مناقشة نظرية الفقير، يحيلنا إلى مفهوم آخر ألا وهو «فقر النظرية»، غير أن كلا المفهومين يعدّان مجالا حيوياً معرفياً تبادلياً، وبوجه خاص في سياقات جدل- العولمة، وهنا يشير واثينغو إلى أثر هذا الجدل في تحفيز القراءات ما بعد الكولونيالية، وتحديداً للآداب والثقافات الناشئة على التخوم والأطراف من حيث قدرتها على أن تكون جزءاً من الثقافة الإنسانية على الرغم من محدودية الإمكانات سواء أكانت مادية أو معرفية، فهل ذلك يعني أن تلك الثقافات تبدو منعزلة ثقافياً، وعقيمة، وتحديداً في أزمنة العولمة ؟
كي تتضح أطروحة واثينغو حول نظرية الفقير، يأتي ببعض الأمثلة والتشبيهات لبيان مقدار توفر أقل قدر من المعنى الحقيقي حيث تطغى كثافة الكلمات على كثافة الفكر، ولعل هذا التوصيف يبدو صادقاً إلى حد ما، وخاصة في مجالات الثقافة المعاصرة، ولا سيما في بعدها المعولم، إذ توصف هذه النظرية من وجهة نظر ألتوسير بأنها «نظام مغلق من المفاهيم التي يدور ويتعرف ويسائل بعضها بعضاً باستمرار». وكي تتضح الصورة بشكل جلي، يستعين نغوجي بمثال الهدية المغلفة بعدة طبقات من الورق الملون الذي يرفع من توقعات متلقي الهدية، وآماله، حيث يمضي ساعات وساعات في فتحها، ليجد في النهاية أنها عبارة عن شيء بسيط، لا قيمة له، ومع ذلك، فالماسة تغلف بطبقات من الورق الملون، مما يبرر الجهد المبذول في التوصل إليها، هذا يعني أن الفكر الحقيقي ربما يكون محجوباً نتيجة كثافة الكلمات، ولكن الإشكالية تكمن حين يكون على العكس من ذلك، مما يقودنا إلى النظر في الزاد، أو المواد الخام، أو الأشكال، وربما الكلمات، والمظاهر التي تغلف عملا ما، فكلما قلت الحاجات – تبعاً لظروف معينة – بدا هذا النسق تشكيلاً مضافاً، بل ربما يغدو نظرية ذات قيمة ثورية، غير مسبوقة، ولكن هذا ربما ينتج عن فقر ما، ولكن كيف يتأتى ذلك؟
لا شك أن تمثيلات نغوجي تنهض على الأعمال التي يضطر بعض الفقراء إلى الاستعانة بها، فعلى سبيل المثال من أجل بناء مسكن يستعين الفقير بالكثير من الخردوات، والألواح، وغيرها لتتحول إلى مسكن (مبتكر)، وهذا ينسحب على الملابس والأزياء، ولا سيما الخروق والثقوب التي نراها في بعض «الجينزات»، والتي استوحيت لدى بعض مصممي الأزياء العالميين من «بنطال» عامل ممزق، لقد تحولت هذه الحاجة إلى تشكيل ثوري في عالم الأزياء حيث التقطها أحد المصممين بوصفها نمطاً جديداً، أو ذلك التوازي بين الفقر بمظهره المعولم، أو القائم على الجمع بين الفقر والقيم الرأسمالية. يشير نغوجي إلى أن بعض مواطني الدول الفقيرة يرتدون قمصاناً تحمل علامات تجارية لشركات كبرى، تسرق أراضيهم كي تقيم مصانعها عليها. لقد أضحى الفقر بإمكانياته المحدودة، بما في ذلك المآسي، والويلات، والعذابات مجالا حيوياً، بل قوة فاعلة ثقافية، ولكن عبر الاستثمار المعولم.
الكتابة الفقيرة – على سبيل المثال- في مجالها البسيط والمتقشف، تبدو على درجة عالية من التجريب، والثورية، بل هي تكاد تحدث تحولاً في التشكيل الإبداعي، وهنا نلمح إلى الكثير من الكتاب الذين افتقدوا لناصية البلاغة بقيمها المتكلفة، وصوتها المرتفع، غير أن إمكانياتهم الفكرية والجمالية والإنسانية لم تتجل إلا عبر لغة اليومي والمألوف عبر إخراج المفردة والتراكيب من طابعها اليومي (المحتقر نخبوياً) إلى مساحة جديدة، ولتتحول اللغة إلى قيمة شعورية دافعة للكثير من الرؤى التي تنحاز إلى ذاكرة الفقر، والمهجور، والتجريدي. ثمة قراء كثر ينفرون من اللغة التي تنطوي على غنى بلاغي مفرط، كونها تبدو أقرب إلى نسق متعال، إن قراءتي لنغوجي واثينغو، اتخذت نوعا من التحوير حيث تبدو الإشكالية قائمة في عالمنا العربي، غير أن نموذج النخب الزائفة سواء أكانت رأسمالية أو ثقافية، سرعان ما تستولي على نظرية الفقير، ولغته، ولاسيما النخب الأكاديمية التي تشرع في دراسات كما بحوث وتوصيفات، غير أنها سرعان ما تتحول إلى طبقات من الكلمات التي تحتوي على أقل قدر من كثافة الفكر، بل إنها ربما تذهب بالقيم الحقيقية التي انطوت عليها نصوص المبدعين الفقراء والمهمشين، الذين جاء معظمهم من الأرياف، أو قيعان المدن، والبوادي.
ولعل النموذج الإعلامي المعاصر هو الأقدر على استغلال نظرية الفقير بهدف تحقيق أكبر قدر من الإعلانات التجارية، والربح، عبر استدعاء الجاذبية المفرطة للتعبيرات الثقافية، وإمكانيات الفقير الذي يتحول إلى موضوع إعلامي دسم، فما منتج الفقير سوى تجسيد لنمط لاستغلال الجمالي وجاذبية (حاجة الفقير) الذي بدأ بالبحث عن أبسط الأشياء لسد حاجة أساسية ما. قبل سنوات حينما كنت أسير في شوارع لندن استرعى انتباهي أحد الموسيقيين الأفارقة، وهو يعزف نمطاً من الموسيقى الإيقاعية الجميلة للغاية، ولكن عبر استخدام مجموعة من الأواني المنزلية على اختلاف أشكالها: البلاستيكية والمعدنية، غير أنني فوجئت بعد فترة وجيزة بإعلان لشركة موسيقية عالمية حول حفلة موسيقية للشخص عينه، وهكذا فقد أضحت نظرية الفقير أو موسيقاه عالمية، لقد تم توظيف الإمكانيات المحدود لهذا الموسيقي بوصفها نسقاً جمالياً، ولكن من منظور معولم. الفكرة تكمن في الابتكار الذي دعت الحاجة له، فهذا الشخص أفاد من القيمة الجمالية، والتجريدية للأواني لا لترف، أو بهدف التجريب، ولكن نظراً لعدم قدرته على شراء الآلات الموسيقية، ولعل نغوجي واثينغو لا يتحول عن هذا المنظور حينما يتحدث عن نظرية الفقير أو الفقر في المسرح حيث يتم التخلص من الكثير من الأزياء والديكور ليتحول فعل المشاهدة إلى التركيز على الأداء الإنساني المجرد، كون الإنسان لا يحتاج إلى الكثير من الأشياء التي تحيط به في الواقع. إن فعل التجريد على خشـــبة المسرح قد تحول إلى قيمة فنية، ولكنه تحول أيضاً إلى وسيلة إثـــراء للبعض، ولعل هذه القدرة على استغلال كافة المعطيات حتى تفكير الفقير، وإبداعه، ومنطقه، باتت نسقاً من أنساق العولمة الرأسمالية.
إن قيمة العالمية تبدو في سياق تحولي، فعالمية الأدب من منطلق نغوجي تعني تنظيم الفضاء المعرفي، أي إنها القيمة القائمة على استغلال القيم الجمالية الآتية من المستعمرات السابقة بوصفها نموذجاً بكراً، أو أولياً للجمال المجرد، وهنا يحيل نغوجي لنظرية هيغل «العبد والسيد» حيث تبدأ الحرية من الشرق، غير أنها تصل قمتها في الغرب، فالشرق يمثل طفولة البشرية، والغرب يمثل نسق الاكتمال المتجدد، وهنا نصل إلى فعل المساهمة في الفضاء المعرفي، أو مدى الانفتاح على القيمة التواصلية، فهي لا تخضع لمركز، وموطن العمل، بل هي تخضع لكيفية قراءتنا له، فلا مركز للجمال، بل إن كل نقطة تعني مركزا لنقطة مساوية لأي نقطة أخرى حسب تعبير نغوجي واثينغو. إن القيمة الحقيقية هي الفعل، أو ذلك المبدأ المستمر، والعابر للمعرفة، والفضاءات والإبداع، فالهوامش هي مراكز في الأصل، ولا سيما من حيث قدرتها على إضافة أشياء لم تكن بالحسبان، إن الإبداع قيمة تكاملية لا محدودة، ولا تقتصر على طرف دون آخر، وبذلك تتجلى الرغبة للعديد من المثقفين ومنهم واثينغو بالتخلص من قيود الاستعمار: ثقافياً وإنسانياً، أو بالتخلص من منطق المستعمر (الغرب) بوصفه النموذج الأعلى الذي يحتكر تصنيف الثقافي، والعالم برمته، كما استغلال … حتى حاجته.

رامي أبو شهاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية