كان يمكن لجميع التقدميين من عرب وعجم أن يفرحوا ويهنئوا الشعب الإيراني بعودة حريته الإقتصادية إلى بلده ما أن تقرر رفع العقوبات الدولية. كان يمكن لكل عقل حرّ أن يرى في الحدث انتصاراً ليس سياسياً فحسب، ولا هو اقتصادياً، لكنه من نوع المثل العليا الإنسانية التي تُداس يومياً في معظم مجتمعات العالمثالثية البائسة. كان يمكن حتى لأشدّ العقائديين من يسار العرب والعالم أن يعترفوا بأن (الثورة) لا تزال محتاجة إلى عقلانية الدولة.. نقول كان يمكن للحدث الإيراني الأخير أن يُستقبل في المنطقة، في أوسع دائرة دولية بصورة أفضل بكثير مما تحقق فعلياً من موجات التشاؤم والشك وحتى الإحتجاج المكشوف او المضمر ضد العودة المنتظرة لإيران كما هي في صورتها السياسية الواقعية التي عملت قيادتها على نشرها وتوزيعها طيلة عمر السلطة الدينية الحاكمة أي منذ سبع وثلاثين سنة متواليةً. فعلى الأقل لو أن إيران ليست هي التي يعرفها الجميع اليوم بل هي دولة شبه عادية من العالم الثالث، وإن كانت لها مزايا ثقافية ومادية معترف لها وبها. وكان لها أن تكون مشروع تحررها من الهيمنة الأمبريالية، واستطاعت النضال ومن ثم الصمود ضد إكراهات العقوبات المانعة لكل نوع ضروري وحيوي لمعيشة ملايين الناس. فإنها ربما سوف تفوز في نهاية الجولة الشاقة بما يشبه استقلالها الوطني الثاني مع الخروج من أسر الحجز على ثرواتها ومصالحها الحيوية معها.
لكن المسألة ليست هي في مثل هذه البساطة من التمنيات في عالم السياسة القاهرة السائدة في المنطقة العربية بأوقح أشكالها عنتاً وجوراً واستغلالاً. لكن تلك هي النظرية الأمريكية التي جعلها الرئيس أوباما أشبه برهان العصر والداعية إلى أن رفع العقوبات عن طهران سوف يلعب دور الثمن السياسي المطلوب دفعه دولياً من أجل تخلي الملالي عن مشروعهم في فرسنَةَ الإسلام والمسلمين. فهل يُعقل أن يتخلى المنتصرون عن أسباب انتصارهم في لحظة الوصول إلى أعلى أهدافهم عينها.
بالطبع لم تأخد الأوساط الدولية الجادة التسويغ الأمريكي على محمل الجد منذ بداية المفاوضات، بل ليس من جهة سياسية واعية كانت مقتنعة حقاً بالنظرية (الأوباموية) في هذا الموضوع البالغ أقصاه من الخطورة والأهمية. وهنالك في أمريكا نفسها، وليس في صفوف المعارضة فحسب، بقدر ما هي بين أهل الحكم عينه، من لم يُقرْ بنظرية الاستيعاب الدولي (الأمريكي) لدولة الثورة الإسلامية! فلم يكن لها قيمة ذات أثر فعال على نجاح النقاشات المستعرة بين الوفدين في مراحلها الأخيرة، إلاَّ من وجهة إعلامية فقط.
واليوم والرأي العام الدولي انتقل إلى حال الترقب لما ستفعله إيران مع حريتها الجديدة: هناك كل صباح عشرات من السيناريوهات تتناول مستقبل الدولة الدينية الأولى في العصر، صاحبة مشروع أَسْلَمة العالم من جديد، وليس المسلمين منه وحدهم؛ وفي هذا السياق فإن المحيط العربي والإسلامي هو المعنّي الأول بأسئلة النوايا الإيرانية للمرحلة القادمة. ذلك أن قرارات بضعة رجال حاكمين في قمة المرشد صار بمقدورهم، وهم في أعالي صوامعهم، أن يخططوا ويرسموا لنوع الحياة والإجتماع والتفكير والممارسة العامة وحتى الفردية لمئات ملايين الناس، مخترقين كل أنواع الحدود القائمة معهم جغرافياً أو عقائدياً أو سلوكياً. فهل يمكن، والحالة هذه، التصور وحده فحسب. أن تتنازل دولة المرشد الأعلى عن كيانها الأيديولوجي في الأصل، في الوقت الذي ينتظر فيه أقوياؤها أن يصبح لدولتهم، وليس لقائدها وحده، أهم أدوار الإرشاد العالمي سعياً لبناء الدولة الإسلامية الواحدة لإنسانية العصر كله، كما يتصورون.
فالأمريكي الأوبامي العادي هو من كان يحلم باستنبات النظام الديمقراطي من الطبقة الملالية الحاكمة عينها ما أن تنهمر المليارات إلى صناديق حكومتهم؛ لكن، ها هو يعود إلى ارتياباته المعهودة في شأن أمانة الخصم القديم بانتهاج الطريق المتطابق تماماً مع (روح) نصوص الإتفاقية مع الجانب الأمريكي والأوروبي.
أما العرب فهم الذين يشعرون أن كل نجاح دولي لإيران هو بمثابة هزيمة لبعض مصالحهم، وفي أمنهم القومي الخاص. وكان الخليجيون منهم تحديداً، يعتبرون أنفسهم بمثابة الدرع الهش لأوطانهم الصغيرة، فكيف، أن تكون متراسَ حمايةٍ لما وراءها من أوطان العرب والإسلام قريبها وبعيدها. فلنذكر في هذه النقطة أن ثقافة ما يُدعى بالأمن القومي العربي لم يَحْلُ لها أن تدعي، مع أي مناسبة خطر عام، انها راعيةٌ شاملة للخليج ضد الأعداء التقليديين لأقطاب بقية المشرق. في حين أن دويلات الخليج هذه صار يمكنها أخيراً أن تلعب دور القيادة الأولى لهذه القارة ليس لمجموعها الجغرافي وحده، بل للقارة الإسلامية كلها. فهل جاء اليوم الذي يشعر فيه الخليجيون أنهم باتوا شبه الوحيدين بين أندادهم من مواطني المنطقة المرشحين لتحمل أعباء الربّان لسفينة (الأمة العربية-الإسلامية) الموشكة على الغرق هكذا إذن: أضعف أبناء القوم يصيرون هم حماته. هذه ليست حكمة من نسيج أسطورة أو خرافة عقائدية ما. لكنها صورة ناطقة ومعبرة عن واقع توازن القوى الحالية ما بين الأقطاب الكبرى المسيطرين على محاور الصراع الظاهر أو الباطني في الساحات الملالية أو شبهها؛ أو المنتظرة منها لساعاتها، من المنطقة العربية. اذ يبدو أن أكثر هذه الأقطاب أعلنت عن مطامعها بطريقتها مدعيّة جميعها بلوغها الحد الضروري من معدلات المناعة والتفوّق إلا القطب العربي الذي يبدو كأنه أمسى هو الفريسة المطلوبة من كل الوحوش المتحلقين حولها.
بعد أن كان عالمنا العربي مرتهناً لإمبراطوريات الشمال الصاعد برأسمالية الفتوحات نحو منابع ثروات الشرق، ها هو يقع ثانيةً في بؤرة الحلقة المرغوبة لدى مشاريع الإمبراطوريات الإقليمية والمحلية المتكالبة عليه ؛ من صهيونية عبرية؛ وهذه الفارسية أخيراً،كأنما يوكلها التاريخ القادر بتحقق النموذج الأعلى لنوع الإمبراطورية القائمة على الوحدة أو التقارب الجغرافي بين السيد والمسود في وقت واحد.
نظرية الأَمبْطَرة الكلية الأُحادية هي اليوم في طور تصفية ذاتها بذاتها. ومثالها الواضح هو المنهج الأوبامي، الساعي إلى إعفاء أمريكا من أدوارها الإمبراطورية الكبرى، والبداية من المشرق ومن كوكبه الساطع سوريا البائسة. غير أنه هل ما يجري هو التعويض الفوري عبر ذلك النموذج اللاأخلاقي في الإستبداد، أشتقاق نظرية الأمبطرة الفرعية. فهل يكاد العصر يعيش مرحلة استنبات هذا الجيل الجديد من فرعيات الأمبطرة، ويؤسس لها كيانات تجرّها إلى حروبها الأهلوية المحلية من كل مذبحة همجية، وتتوزع في المفاصل من الخارطة الجيوسياسية العُظمى لدولً بقية العالمً، غير الغربي طبعاً.
أليس من السخرية الحزينة حقاً أن يصبح العرب هم الأمة الأضعف ما بين أتباعهم السابقين تحت مظلة (إمبراطورية) الحضارة الإسلامية التي قادت الإنسانية لقرون عديدة في غابر التاريخ الكوني. هؤلاء العرب أنفسهم باتوا هم المستهدفين ليس من قِبَلِ أعدائهم التقليديين البعدين فحسب. ولكن من قبل أقرب الأمم الأخرى، من شُركائهم في كفاح الماضي والحاضر من أجل أنبل المثُل العليا في الحرية والعدالة. كأنما يظهر أن الحُلْم بالكيان الإمبراطوري لم يعد يمكن تحقيقه لدى أولئك الفرس أو الترك، وما بعدها بني صهيون كذلك، إلاَّ بالفوز بالوطن الغربي أولاً. فقد احتكر هذا الوطن مركزَ العين من كل عاصفة إقليمية بل عالمية، بقصده هو أو بقصد أقداره المجهولة.
ثنائيةَ العرب/العجمَ التي دأبت على احتلال الصدارة لمعظم تحولات أحداث الحضارة الإسلامية الكبرى أيام مجدها.. هل هذه (التعويذة) الأنثربولوجية راحت تعاود احتلال العنوان الأوسع لأحداث الحاضر المأزوم. إنها ثنائية محشوة بذاكرة الأعطال المتبادلة بين قطبيْها، أكثر من كونها حاملة لأختام الشراكات والتفاهمات وعلاقات حسن الثقة والجوار بين إخوان الفكر والمجد، وليس بين الأضداد المتبارين في توظيف كراهية العنصريات والأنانيات العمياء فيما بينهم.
كلما التجأت بعض الشعوب المتخالفة نحو التبعية لنزوات غرائزها، تولّدت بينها الأحقاد السوداء وحدها، بينما في حال إشراقةٍ للفكر لدى بعض طلائعها، تكون العودة إلى التضامن هي المعبرة حقاً عن أولوية الدور الفاعل لثقافة الحرية وحدها. فالقوميات المتأصلة في هذا البرزخ الكوني المصطلح على تسميته بالشرق الأوسط. آن لها أخيراً أن تتعظ من مهالكها عينها أن تنتزع عن شعوبها وظائف الوكالات المحلية للمصالح الأجنبية. فالأغراب المعروفون، هم الذين يعيدون اليوم إستلاب المشرق كله؛ قرروا أن ينصبوا أخطر مخططات التقسيم انطلاقاً من إدارة مئة سنة جديدة من التذابح الطائفي. تذكروا أن أوروبا وكل هذه الحضارة الموصوفة بالغربية، لم تكن لتوجد إلاَّ بعد الإنتهاء من حروب المئة سنه الدينية. فهل لم يتبقَّ لهؤلاء من قوة ردع ضد يقظة العرب والإسلام إلاَّ بإسقاطها في مصائد أخطر عاهات الماضي الغربي وهي: أسطرة الجماعيات العصبية بالتحريمات الغيبية، جعل القدسيات اللفظوية تتوكل عن البشر وعقولهم بتسيير أمورهم الدموية.
الرد على الحرب الأهلية الدينية لمئة سنة، القادمة على المنطقة من كل مقدماتها الدموية الراهنة التي تعمّ دولَ محاور الأساس في المنطقة، هذا الرد له منطلق تحد هائل ومباشر. ويكون ذلك بالدحض السياسي والفكري المنظم لمشروع إعداد إيران كيما تكون اليد الضاربة في المنطقة كلها المنفذة لمهمات الإمبريالية الفرعية أو الإقليمية؛ ذلك ما يفسر الأفراح الصاخبة التي لا تزال دوائر الغرب الرسمية والإقتصادية تقابل بها عودة إيران إلى المسرح الدولي. فالمطلوب عربياً في هذه اللحظة الفاصلة ممّن تبقَّى من أرباب الوعي في إيران أن يحددوا لبلادهم من هم أعداؤها الحقيقيون ومن هم شركاؤهم التاريخيون من الأساس، وحتى أجل غير مسمى.
٭ مفكر عربي مقيم في باريس
مطاع صفدي
لا حول ولا قوة الا بالله