يتصف الشعب الألماني في نسخته الحالية بكثير من الانفتاح والتسامح، وفي حالة التفوه بأي تلميح، ولو بعيد عن التاريخ العنصري للنازية، يرتبك مضيفك الألماني ويبدأ في تفنيد جميع العبارات التي قلتها أو تنوي أن تقولها، وباستثناء جماعات النازيين الجدد فإنه ليس من الحكمة حتى الممازحة في هذه الشؤون. كان ذلك أحد الأفكار التي كتبتها غير مرة قبل سنوات غير بعيدة، ولكن ربما كان الوقت مناسباً لمراجعة هذه الفكرة كلية ومعها مجموعة أخرى من الأفكار والصور المتفائلة.
في التاسع من نوفمبر 1938 انطلقت جموع من المتعصبين مدفوعين بالواجب التنظيمي ضمن الحزب النازي، أو منساقين وراء البروباغندا النازية لتحطيم متاجر ومنازل اليهود في أكثر من مدينة ألمانية، في الليلة التي عرفت لاحقاً بليلة الزجاج المكسور، وبعدها بدأت تتسارع الأحداث بالطريقة المعروفة أو الشائعة توخياً للدقة، فهل يمكن أن تكون ليلة كولونيا الأخيرة بداية طريق صعب على مسلمي أوروبا أن يقطعوه قريباً.
لأول وهلة يبدو الربط جزافياً ومفارقاً للواقع والحقائق المنظورة، فالطريق إلى معسكرات الإبادة كان يمضي متكئاً على قوانين غوتنبرغ 1935 ووجود النازيين المتعصبين في السلطة، في حين تقوم القوانين الحالية المطبقة في ألمانيا بحماية المجتمع من هذه النزعات، وتعطي وضعية خاصة تصل إلى التدليل بخصوص المهاجرين واللاجئين، ومع ذلك، فالقوانين تتولد نتيجة صراع الإرادات في المجتمع، وهي عملية لا يمكن التنبؤ بنتائجها، خاصة في أعقاب الحوادث الصادمة التي تستثير الغرائز الجماعية، وليلة كولونيا لحظة مثالية للدخول في انعطاف حاد يمهد لمواجهة عاصفة داخل ألمانيا وبقية البلدان الأوروبية. نبرة سوداوية إلى حد كبير، ولكن ما الذي أنتجته النبرة الايجابية التي سادت العالم بعد الحرب العالمية الأولى؟ حرباً عالمية أوسع وأعنف. في غضون أقل من عقدين تساقطت جميع الأحلام التي بشرت بعالم أفضل تحت شجرة الديمقراطية وحقوق الإنسان، والانتصارات التي رأى البعض أنها قطعية وحاسمة تبين أنها لم تكن سوى بروفة لمعنى الحرب الذي كانت بصمته تنطبع على العراء المرعب بخوائه في هيروشيما وناغازاكي.
كان العالم يتحدث عن إتاحة ثمار التطور التقني في القرن التاسع عشر حتى في القرى البعيدة، المياه الساخنة بدأت تتوفر في جميع أنحاء أوروبا، القطارات لم تعد حكراً على فئات اجتماعية معينة، وهذه حالة قريبة مما يعايشه الكثيرون اليوم، ولكن تطور التكنولوجيا شيء واستغلالها لما يسمى خيراً إنسانياً أمرٌ مختلف، ولا يوجد ما يدفع لتصديق مشاع تكنولوجي يدفع لزيادة انتاجية الغذاء أو الدواء لتوفيرها للفقراء والمهمشين، ومن يجادل بأن الوعي الإنساني ارتقى عن حالته قبل قرن من الزمن، وأصبحت الإنسانية أكثر خبرة ودربة في التعامل مع الشطط العرقي أو القومي، عليه أن يراجع نفسه من خلال التأمل في تحولات الوعي على مواقع التواصل الاجتماعي، فالأخبار والتدوينات العنقودية وحتى الساذجة منها أصبحت تستطيع أن تخلق التوتر وأن تغذيه بصورة مستمرة وعلى مدار الساعة، وأصبحت هذه المواقع تستخدم في إدارة الفعل الاجتماعي في الشارع، كما حدث في اضطرابات لندن ليكون الحدث الذي دشن نجومية موقع تويتر ليزاحم نجاحات الفيسبوك في الربيع العربي.
ليلة كولونيا مرعبة، فهي البارود الذي بدأ يتكدس في البرميل، وملابسات اللهب الذي سيمتد لفتيل الكارثة هي فقط القطعة الناقصة في فسيفساء المرحلة المقبلة، ويفضل أن تبقى كذلك، مع الانتباه لسخونة البرميل نفسه، فالصراعات ذات الطابع المرتبط بأنماط الحياة لا يتطور بسرعة ويبقى مكبوتاً وغامضاً مع بقائه في الوقت نفسه عميقاً ومراوغاً. ربما بدأت كلمات مثل الاندماج والتعايش من مفردات الفلسفة السياسية المثالية، فالحديث الراهن يتعلق بالاحتواء والسيطرة، وعلى خيميائيي التوازن المرهف بين متطلبات الأمن وحقوق الإنسان أن يبقوا يقظين لأدواتهم وتفاعلاتهم، فالعالم الغربي على جانبي المتوسط لا تفصله سوى بضعة عقود عن نوبات النازية والفاشية والمكارثية، وكل بلاغة وأناقة السيد أوباما في البيت الأبيض لم تتمكن بعد من اطفاء صدى صرخات مارتن لوثر كينغ، وقبل نحو ستة عقود كانت محكمة بريطانية تستصدر حكماً بإخصاء ألمع علماء الحاسب الآلي، والرجل الذي أعطى بريطانيا كنز الشيفرات السرية للنازيين آلانتورينج ليلقى إعداماً اجتماعياً مؤلماً دفعه لموت مؤسف.
المهاجرون المسلمون سيكونون هدفاً سهلاً للإدانة في أي تحولات اجتماعية على مستوى القارة الأوروبية أياً تكن مصادرها أو أسبابها، فالشعوب تحركها العاطفة والحكمة الجماعية تصلح لأن تتجاور مع الغول والخل الوفي، وإدارة الوعي من خلال التوجيه والملصقات الدعائية، سواء علقت على أعمدة الإنارة أو حسابات الفيسبوك تبقى قاصرة ومتعذرة أمام فورات الضغائن، ومع أن المجتمعات الأوروبية تبقى متحفظة في إلقاء اللوم على الأقليات أو محاصرتها في الصور النمطية، إلا أنه في حكم المؤكد أن المهاجرين المسلمين والعرب فقدوا أي فرصة لخلق تعاطف مع قضاياهم، سواء على مستوى الأفراد أو التجمعات، وبالطبع لن يتحصلوا على فرصة مناسبة ليظهروا بمثابة الإضافة النوعية التي تثري التنوع وترفد الدول المضيفة بخبرات خاصة أو جديدة مثل الأرمن أو الهنود مؤخراً.
من الصعب أن يقتنع الأوروبيون بأن الفئة التي استهدفت النساء في ليلة رأس السنة بكولونيا هي أصلاً من هامش المجتمع الشرق أوسطي، ولا تمثل قيمه أو أفكاره العامة، وأن مسلكها في ركوب البحر والهجرة الخطرة يعبر عن انعدام فرص تحقيقها لوجودها في بلدانها الأصلية، نتيجة تركيبة من الظروف الاقتصادية والاجتماعية، كما أن أحداً لن يتذكر أن ثمة فوارق هائلة في الحالة العامة بين المهاجرين الاقتصاديين واللاجئين من مناطق الصراع، فمن المفارقة أن يستفيد المتشددون الذي يقطنون في أوروبا، من خلال الاختباء وراء مأساة اللجوء السوري، التي توفر أرضية لتشتيت الجدل حول الغرباء في ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية، والأزمة تتزايد احتمالاتها مع وجود الساسة من الباحثين عن كاريزمية القوالب الشعبوية والتلاعب على التناقضات بما توفره من فرصة للظهور تفوق البحث عن الحلول والتوازنات التي يمكن أن تؤهل لجائزة نوبل للسلام، بدون أن تقدم أدنى إغراء لأصوات الناخبين، وفي الأعوام الأخيرة يظهر أن الأوروبيين أخذوا يزهدون في هذه الجائزة التي اصطبغت باللون الشرق أوسطي والعالم – ثالثي.
٭ كاتب أردني
سامح المحاريق
من اعمق واهم ما قرات على صفحات القدس لكاتب بحق هو سامح المحاريق شكرت لهذا العرض العميق الواعي