مكمن الداء

انتظر التونسيون الكثير من الإئتلاف الحاكم الذي أفرزته الانتخابات التشريعية التي جرت منذ أكثر من سنة، ومنوا النفس بإنجازات تنسيهم إخفاقات حكم الترويكا السابقة، لكن الحكومة المشكلة من هذا الإئتلاف مازالت إلى الآن تخيب الآمال بأدائها الهزيل في عدد من الوزارات. إذ لم تدرك هذه الحكومة بعد أنها جاءت للتخطيط والبرمجة لسنوات، وربما لعقود، وأعطت الانطباع بأن دورها يقتصر على تصريف الأعمال كسابقاتها.
ولعل السؤال الذي يطرح في تونس وخارجها، ماذا بعد هذا الانتقال الديمقراطي الذي نجحت فيه الخضراء؟ هل هناك تصور للبلد بعد نصف قرن من الآن على سبيل المثال؟ حقيقة لا يوجد جواب صريح لدى أصحاب الشأن من الساسة الماسكين بمقاليد الحكم، لأنه لا يوجد لديهم تصور لمستقبل الخضراء، ولا حتى لحاضرها، ولم يقع تحديد الأهداف بعد، ولم توضع الخطط والبرامج للوصول إلى هذه الأهداف. ويرى البعض أن سبب هذا التخبط يعود إلى افتقار الخضراء لأحزاب سياسية حقيقية تتوفر فيها الشروط المتعارف عليها لدى المختصين في العلوم السياسية. فالأحزاب التونسية هي مجرد «ماكينات» انتخابية توصل هذه الثلة من البشر أو تلك إلى مواقع القرار، فيجد «المنتخبون» أو المعينون أنفسهم أمام كم هائل من الملفات المتراكمة، لا دراية لهم بها، فيعجزون عادة عن التخطيط وإيجاد الحلول. ففي أحزابنا لا توجد مراكز دراسات كبرى تضع الخطط والبرامج المستقبلية وتجمع المعلومات والمعطيات، وتخضع القيادات باستمرار لعمليات تكوين و»رسكلة». حتى إذا ارتقى السياسي إلى سدة الحكم وجد نفسه جاهزا لتطبيق البرامج المعدة سلفا، التي ساهم في إعدادها في مخابر لصنع القادة والمسيرين.
لذلك احتارت الترويكا في أمرها وتاهت سنوات ثلاث بالتمام والكمال، وسارت حركة نداء تونس وحلفاؤها لاحقا على خطاها. وقد تفوز أحزاب الترويكا السابقة مجددا أو غيرها في استحقاق انتخابي مقبل، ولكن بالنهاية لن تقدم الإضافة المرجوة لأنها مفلسة كغيرها من الأحزاب السياسية التونسية التي لم يكتمل بناؤها بعد. لدينا في تونس مصارعين أشداء على كراسي الحكم، لكنهم أعجز ما يكون عن التخطيط لعقود أو حتى لبضع سنوات، أو ربما لأيام معدودات. والسبب هذه الماكينات الانتخابية التونسية المسماة «أحزابا سياسية»، التي تتشدق بالديمقراطية وبعضها عاجز عن عقد مؤتمر تأسيسي، والبعض الآخر لم نعرف له عبر تاريخه رئيسا غير مؤسسه. وتؤثر الإضرابات، وكثرة الاحتجاجات، والمطلبية المبالغ فيها، واستشراء ثقافة التواكل والكسل، سلبا على الاقتصاد الوطني ويستفيد من كل ذلك منافسو تونس في القدرة على الجذبين السياحي والاستثماري، وفي إنتاج الفوسفات. ويبدو أن لدى هذه الجهات المنافسة خدما ومأجورين في الداخل، بعد أن تمكنت هذه الأطراف، أو هذا الطرف المعلوم، من اختراق الساحة التونسية بعد فوضى الإطاحة بنظام بن علي. كما أن المحيط «غير الناهض» الذي توجد فيه تونس والذي لم تعرف بلدانه إلا سبيلا واحدا للتنمية، تتمثل في تنقيب الشركات الأجنبية عن البترول واستخراجه ومنح بعض فتاته لإقامة المباني الشاهقة ولإنفاق المواطنين واستهلاكهم اللامحدود بدون إنتاج، أثر سلبا على عقول أبناء الخضراء وجعلها قاصرة ولا قدرة لها على الإبداع وتصور إمكانية تحقيق تنمية بدون بترول، خاصة أن الشعب التونسي في عمومه لا يهتم كثيرا بتجارب دول آسيوية مثل، اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا، وبعض بلدان أمريكا اللاتينية على غرار الأوروغواي، وهي دول لا تمتلك مخزونا من المحروقات، ورغم ذلك نهضت وحققت المعجزات وتفوقت على الأقطار العربية النفطية.
لذلك لم يسعد البعض كثيرا باكتشاف البئر النفطية الجديدة في منطقة الفوار جنوب البلاد، خشية من أن تصرف هذه الاكتشافات الجديدة الأنظار عن البحث والاستثمار في الطاقات البديلة غير الملوثة، على غرار الطاقة الشمسية، وتطوير تقنياتها. فهذه الطاقات متجددة ولا تنفذ وتمثل الحل الأمثل بالنسبة للاجيال القادمة ووجب التفكير جديا في اعتبار تطويرها خيارا استراتيجيا.
كما لا يولي التونسيون أهمية للحكم المحلي، وكان من المفروض إجراء الانتخابات البلدية والجهوية قبل الانتخابات الرئاسية والتشريعية، فتم الانصراف إلى التنافس على ما هو «مركزي» وتركوا «اللامركزية» جانبا. فالمسؤول المحلي أو الجهوي هو الأكثر التصاقا بهموم المواطن، وتنمية الجهات الداخلية لا يمكن أن تتم بدون مسؤولين محليين وجهويين منتخبين، أقوياء، يتمتعون بصلاحيات واسعة تمكنهم من المساهمة في أخذ القرار.لا بد من منح البلديات أو المحليات في تونس صلاحيات أمنية وصحية وتربوية وغيرها أسوة بنظيرتها في الغرب، حتى نصل في مرحلة ما إلى التخفيض من عدد وزراء الحكومة. كما وجب أن تصبح لهذه المحليات موارد قارة من خلال بعثها لمشاريع تجارية ربحية تؤمن لها مداخيل تمكنها من تنفيذ برامجها في أفضل الظروف. كما أن العقلية التي تجعل من الوالي (المحافظ)، الذي هو ممثل السلطة المركزية، الحاكم بأمره على مستوى الجهة، يجب أن تتغير، وعلى رؤساء البلديات المنتخبين أن يفرضوا قرارهم المستقل على الوالي المعين، فالقاعدة تقتضي أن المنتخب أقوى من المعين ولديه سلطة معنوية لا يتمتع بها المعين لأنه مفوض مباشرة من الشعب.
ولأن التاريخ عبرة باعتباره تجربة إنسانية، فقد وجب أن تستقى منه الدروس والعبر من خلال العمل على تنمية أسباب القوة وتجاوز أسباب الضعف والانحطاط. وسر نجاح قرطاج كإمبراطورية سادت لقرون في البحر المتوسط هو التجارة الدولية والزراعة (الرحالة التاجر حنون ومهندس الزراعة والجينات ماغون)، أي وجب العمل على تطوير الزراعة والتجارة الدولية لتصبح الثروات الطبيعية والطاقية والمنجمية، وكذا السياحة مجرد مكملات للاقتصاد التونسي. هل موقع سنغافورة مثلا أفضل من موقع تونس لتصبح منطقتة عبور (ترانزيت) بينما تونس لا؟ نحن من يتوسط الشمال الأفريقي فاصلين بين آسيا والولايات المتحدة ونحن محور القارتين الأوروبية والأفريقية وهذا ما تفطن له أجدادنا القرطاجيون وسهونا عنه. متى يتم الانتهاء من ميناء المياه العميقة الذي سيحولنا إلى نقطة محورية في التجارة الدولية على الطريق بين مضيق جبل طارق وقناة السويس وتحديدا بمضيق صقلية؟ متى سيتم غلق مطار قرطاج الدولي الذي انتهى عمــــره الافتراضي ويدخل مطار النفيضة الحمامات الجديد حيز الاستغلال الفعلي ليربط الخضراء بشتى بقاع العالم، باعتبار حجمه الكبير وقدرته على استيعاب حركة ملاحة لدولة عبور؟ متى سنغير من قوانينا المبالغة في الحمائية للتأسيس لسوق حرة حقيقية مفتوحة على العالم؟
وتبدو الفرنكفونية لدى البعض من أهم معوقات التونسيين نحو التقدم. وهي ليست العائق الوحيد فهناك هذه الثقافة التكفيرية والفهم الخاطئ للنص الديني وإضفاء القداسة على الاجتهادات الدينية البشرية وغيرها. إن تمسكنا باللغة الفرنسية التي بدأ يهجرها أغلب الأفارقة، يجعلنا أبعد ما نكون عن آخر الاكتشافات العلمية والابتكارات التكنولوجية وأهم نتائج الدراسات والبحوث التي تجرى في العالمين الأنغلوسكسوني والشرق آسيوي، وهي الأمم الأكثر تقدما في هذا العالم. لغة شكسبير هي الآن لغة العلم والمعرفة ولغة التجارة والمعاملات الدولية، فإما أن نندمج بها في هذا العالم الرحب، وإما أن نتمسك بالفرنكفونية (التي كانت خيارا ناجعا في مرحلة ما ولم تعد كذلك) ونبتعد عن عصرنا، خاصة مع غياب حركة ترجمة حقيقية ممنهجة تهدف إلى تمكين باحثينا من آخر ما توصلت إليه البشرية من كشوف واختراعات.
لا يوجد بلد فرنكفوني حقق نهضة علمية واقتصادية باستثناء فرنسا التي تتراجع. كما أن باريس ليست سخية مع التونسيين سخاءها مع بلدان مغاربية أخرى حتى نتمسك بثقافتها وحضارتها. علينا بالحسم في هذا المجال لأن الأيادي المرتعشة لا تصنع الربيع من جهة ولأن الوقت يمر والأمم من حولنا تتقدم ومن لا يتقدم يتقهقر.

٭ كاتب تونسي

ماجد البرهومي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية