كان ينبغي منذ سنوات ألا تسمّى وقائع الكارثة بكونها وقائع سورية إلا من حيث موقعها الجغرافي، لكنها في حقيقتها هي حرب المجتمع الدولي على الأرض السورية وبالمادة البشرية لشعبها. علينا ألا ننسى أول إحباط من النوع البنيوي قد تلقته سوريا في أيام إنتفاضتها الشبابية الصاعدة عندما لجم الفيتو الروسي أية فعالية مجدية لتدخل حر للأمم المتحدة، الأمر الذي أتاح للنظام إستخدام وسائل العنف العسكري ضد المظاهرات المدنية، ويتدرج تصاعدياً بإستخدامها من مستوى البنادق إلى المدافع الميدانية والطيران الحربي وصولاً إلى أسلحة الدمار الشامل، والنووية منها خاصة. هذا الفيتو الروسي كان هو المدخل المشؤوم إلى مخطط تدويل القضية السورية برمتها، وجعل عوامل هذا المخطط يمتلك تدريجياً وبسرعة فائقة مفاتيح المبادرات لمختلف الأحداث وانعطافاتها الخطيرة القادمة عبر السنوات الخمس العجاف من عمر الجحيم الناشط ببراكينه المتنوعة في كامل التضاريس الجغرافية والإجتماعية السورية.
لم يحدث التدخل الروسي بالفيتو الأول ثم الثاني كنتاج للتنافس التقليدي بين القوتين الأكبرين (أمريكا وروسيا)، بل لم يبدُ على إدارة أوباما أنها صدمت حقاً بالسبق الروسي. لم يخطر ببالها التصدي للفيتو وإفشاله. هناك أساليب الخبث الدبلوماسي المعروفة والتي كان يمكن لذكاء هذه الإدارة أن تحبط على الأقل النتائج السياسية الخطيرة التي ستترتب على إنصياع الهيئة الدولية سريعاً لإدارة قيصر موسكو الصاعد. فلقد اكتشفت هذه الإدارة أن المبادرة الروسية ليست تحدياً لأمريكا، ولن تكون على درجة كبيرة من الإضرار بالمصلحة الغربية. هذا إذا لم تتساقط روسيا كاملة في المستنقع السوري الذي لم تكن ملامحه قد برزت بعد في بدايات تحويل الثورة إلى مسلسل مجازر مماثل أو مضاه لما سيحدث لأعدائها من أشباهها وما يفوقها كذلك. هكذا إذن أعدّت أمريكا أدوَارها القادمة التي ستخص روسيا ببعضها الملتبس وربما بما هو منها الأشدّ مكراً وخبثاً. لكي تلعبه الشراكة الروسية القادمة ما أن ستنخرط في إستغلال الفواجع السورية التي ستلاقيها وهي على الطريق الموبوءة بهمجيات الإنسانية الحيوانية للقرون الأولى ما قبل عمر الحضارة.
لا يمكن القول أن هناك تحالفاً سياسياً وربما شبه عسكري كذلك، بين الخصمين اللدودين؛ خاصة على ضوء ما توحي به أزمة المفاوضات المقطوعة حالياً؛ إذ بدلاً من صيغ التحالف يُطرح مصطلحُ التفاهمات. هكذا دائماً في صيغة الجمع، لأن ما تعنيه هذه العلاقات المريبة هو أن الدولتين تلتقيان على إتفاقات جزئية، وحول نقاط محددة سلفاً بدقة كمية أحياناً. إنها نوع من الصفقات التجارية حقاً حيثما يتبادل أطرافها مصالح، يعتقدون أنها متكافئة فيما بينهم حول مشكلة معينة، فالصفقة هي وحدة التجارة المنفعية، لكن المجردة سلفاً عن أية قيم أو اعتبارات معنوية سوى ما تخلّفه من مشاعر النصر والفوز الأفضل بالنتائج المنتظرة. هذا ما يفسّر اللغز الكبير الذي أحاط دائماً بالسلوك الدولي إزاء منعطفات الأزمة السورية التي جعلتها تصّب إجمالاً في صالح النظام، وأعداء الثورة.
هذه التفاهمات المشبوهة بين جدران الدبلوماسيتين الروسية والأمريكية كانت سيدة الموقف في اللحظات الحرجة، وما كانت هذه اللحظات الحرجة لتلقى صفتها الإستثنائية هذه إلا كلما شَعَرَ القطبان بأن (الثورة) تميل كفتها نحو الرجحان، في ميدان عسكري ما أو سياسي. ولعل افشال جنيف3 قبل انعقاده، لم يكن ليقع هكذا سريعاً لو لم يمتنع كلا الفريقين الدبلوماسيين المتواجدين في كل كواليس المؤتمر، عن إنقاذ العملية السياسية بما يشبه الضربة القاضية المضادة. بل قد يكون السبب المباشر لهذه المهزلة منطلقاً أساساً من الجانب الروسي، المعارض منذ البدء لمشروع التفاوض ما دام لم يسيطر هو الروسي وحده، على أكثرية التدابير والتفاهمات الأخرى الفرعية حين فرضت الصيغة النهائية التي تشكلت بموجبها الوُفود وشخصياتها كما ظهرت أمام الجمهور المراقب، وكما رآهم العالم كله منذ الساعة الأولى على شاشات التلفزة.
واضح أن الفريق الموسكوفي الدمشقي لم يكن راضياً عن هذه التشكيلة برمتها. ليس لعلة الخلافات حول أسماء الفصائل بين الأشخاص فحسب، بل هي خشية الروس من المبدئية الضمنية من إمكانية تحقيق عملية التفاوض نفسها التي إذا ما تركت لحراكها الذاتي فقد تفتح طريقاً سليماً نحو فرض نتائجها على أجور بقية كل الأطراف. فمنذ الساعات الأولى لوصول الوفود إلى الفندق أعلن الفريق الروسي الدمشقي ما يشبه حربا صاعقة جديدة ودفعة واحدة على مجمل المراكز العسكرية والمدنية من شمال سوريا إلى جنوبها. ليس هناك أعنف دلالة عما يريد هذا الفريق، كما لو أنه اتخذ القرار الجدي بالقضاء المبرم على كافة قوى المعارضة. وقد لا يكون هذا التطوير جديداً بالنسبة لتقاليد العنف الروسي البوتيني، لكنها هي الشراكة الأمريكية التي قبلت هكذا بتمزيق آخر أقنعتها التضليلية، وأن تظهر عارية الرأس والجسد كله، بإعتبارها متورطة إلى أخمص قدميها في سياسة النفاق المدعوة بالإزدواجية ما بين القول وعكسه في الفعل. فقد دمرت أمريكا بكل بساطة ما كانت تعتبره تميزها في الفكر والممارسة حيال سوريا، وكأنها حليفة قوية لثورتها، في حين أنها لم تتردد في قتل مسيرة المفاوضات من أولى خطواتها، مع معرفة الجميع أن أمريكا هي التي عملت طيلة الأشهر السابقة على تثبيت الحلول السلمية لإستراتجية التدخل الدولي في المسألة السورية كاملة. وهي المسؤولة عن طرح مشروع جنيف 3 من أساسه، وهي المخططة لطريقة بنائها والمشرفة والممارسة العملية في إعداد أصغر خطوات تنفيذه.
كل هذا أطاحت به الرغبة الروسية في تجديد حماية مستقبل النظام، ما جعل أمريكا تسلّم القيادة الخلفية لمسيرة المؤتمر إلى الفريق الروسي دون تردد. فما هو الثمن الحقيقي الكامن وراء مثل هذه الصفقة شبه الخرافية ليس في أهميتها المصيرية فحسب، بل في فهمنا العربي خاصة، للمدى غير المحدود الذي يمكن أن يذهب إليه جموح الإنقلاب الأمريكي الإستراتيجي نحو ما لا يُتصوَّر من عمق الإضرار المقصود والمتعمّد لجوهر السلام العالمي، وأمن شعوبه الضعيفة في ظل الإستبداد الكوني.
لم تفعل أمريكا شيئاً في الرحلة السورية مع أوباما بناءً على عبث، كما قد يتخيل كثير من المراقبين أما التردد والتخاذل اللذان يتباهى بهما أوباما، فهما لا يخدشان كرامته أو يؤذيان حساسيته. ذلك أن نتائج سياسته في المشرق إضافةً إلى إنجازه النووي مع إيران، ستحفر عميقاً جداً في أسس المستقبل الفعلي لأخطر خطوط التوازن الجيوسياسي في منطقة البراكين الدولية المزمنة ما بين شرقي أوروبا وشرقي المتوسط. هكذا قد يجيب أوباما على منتقديه عن تقصيره السوري أنه لم يكن يسمح للدب الروسي بغزو الجنان الشامية تعويضاً له عن مطامحه في استعادة أملاك الإتحاد السوفييتي السابقة من دول أوروبا الشرقية.. هذا التعويض قد يكون تحصيل حاصل لمجرى الأحداث، ولكن المهمة الكبرى التي اختارها تقديراً لـ(خدمات) صديقه اللدود بوتين هي في تحويل القيصر الروسي إلى آلة (جاروف) تستخدم في تنظيف المنطقة من ذئابها وثعابينها التاريخية المؤهلة منها والغريبة الدخيلة عليها أيضاً.
آخر إنجازات هذه المهمة كانت في تسليط الروسي الهائج على هدفين عربيين مزدوجين هما. نَسف مبدئية الدعوة العالمية العازمة على إلغاء النكبة السورية وذلك بتجريف أولى خطوات فرض حق المنع على الحرب، وإنطلاقاً من جنيف3؛ والهدف الثاني المرافق هو تجريف جميع بؤر المعارضة مع حاضناتها المدنية في كامل الجغرافية السورية، أي ما يشبه إعلان حرب إبادة شاملة ضد قطاعات كبرى من بقايا الشعب السوري.
أما كل ما يُسمع عن احتجاجات أوبامية على هذا التجريف المزدوج، أو آتية من أوساط ما كان يسمى بهيئات «أصدقاء سوريا» من دول العالم الغربي خاصة، فلن تكون إلا من نوع ذرّ الرماد الأبيض فوق العيون المتوحشة برغباتها الجنونية الحمراء لإصطياد فرائسها التائهة. يبقى السؤال العتيق : متى يمكن لهذه الفرائس أن تنبت لها مخالب وقواطع جديدة قادرة على فلّ حدائد الجواريف المعتدية..
ماذا يمكن للعربي أن يفعل إزاء هذا التحدي الجهنمي المسلط على أبطاله وأطفاله في كل ميدان وجهة وبيت؛ سوى أن من يحصر إدانته فقط بآلات الجواريف البشرية، وهي صماء بكماء، لكنه يغادرها إلى الأيدي الممسكة بآلاتها القاطعة والرؤوس المتلطية وراء أسمائها الحسنى، من كل فصيلة كاذبة. هذا العربي والمسلم لم يعد مسموحاً لأي منهما أن يمعن في تجاهل وجه عدوه الحقيقي، وألا يكتفي فقط بتصويب كل نظره إلى عيني العدو المجّمرتين بأحقاد الأزلية الوحشية ضداً حتى على الحلم فحسب بمولد أبدية الإنسانية الشريدة، ربما صار عليه أن يقول له أخيراً : إني أعرفك ولن أنساك أبداً أيها الأمريكي المنافق!.
٭ مفكر عربي مقيم في باريس
مطاع صفدي
الى متى نكرر نفس الخطأ. تحالفنا مع بريطانيا ضد الدولة العثمانية و راينا النتيجة. و تحالفنا مع امريكا ضد العراق و هاهي النتيجة امامنا. و اعتمدنا على التدخل الخارجي في ليبيا و نعيش النتيجة. وما زلنا نطلب من امريكا و غيرها التدخل.
اولا: لا يمكن ان يوجد تحالف بين ضعيف وقوي
ثانيا: الكبار اكثر جشعا واكثر حرصا و اكثر تحوطا و لا يمكن ان ينحازوا ضد ادنى مصالحهم
ثالثا: ان ثورة الشعب السوري كانت من اجل الحرية و الكرامة و التقدم و هذا بالضبط ما لا يريده معظم المتدخلين في الحرب. و انما تدخلهم هو اولا لضمان عدم وجود تحول ديمقراطي حر في سوريا لان هذا سيكون ايذانا في قلب كل المعادلات
رابعا: ان كل المتدخلين ايضا يمكرون كل للاخر، و يحاول ان يخرج باكبر كسب على حساب الاخر و اخر ما يهمهم هو الارواح او الممتلكات السورية.