الأدب الاستباقي (3 والأخير): ستيغ لارسن يفضح يوتوبيا الشمال الزائفة

ما كان يخشاه ستيغ لارسن وهو ينجز ثلاثية «ملينيوم»، من عنصرية وتطرف وفوبيا الأجنبي، التي رسخها اليمين المتطرف، في ظل أزمات اقتصادية غير مسبوقة، أثبتت السنوات التي تلت منجزه الروائي صحة ما كان مجرد افتراضات.
لقد كانت «ملينيوم» استباقياً أدبياً واجتماعياً بامتياز. نكاد لا نصدق ما يحدث اليوم في أوروبا الشمالية من تغيرات فرضتها شروط اليمين المتطرف الصاعد وتواطؤات الساسة، على المستوى العالي في هرم السلطة، للحفاظ على بقائهم في دوائر الحكم. فقد كشفت لنا «ملينيوم»، اللوحة الخفية لمجتمعات أوروبا الشمالية اليوم. لم يكن ميكائيل بلومكفيست، شخصية عادية ولكن أيضا رمزية مقاومة للفساد والجريمة التي تنخر أوروبا الشمالية من الداخل. فهو غير متواطئ، على الرغم من الحسابات والضغوطات التي تمارس عليه يومياً من خلال عمله. رجل ذكي وصارم، يعرف جيداً النخب السياسية الحاكمة، والمؤسسات العليا في المجتمع السويدي، ويدرك أنماط تفكيرها الداخلي وبنياتها. فهو الصورة المضادة والعكسية لأوروبا الشمالية اليوم التي فقدت كل مؤشراتها الإنسانية.
نستغرب أحيانا كيف تحولت هذه البلدان التي كانت النموذج الإنساني الأعلى، بسرعة نحو الطرف النقيض؟ الأراضي الطيبة التي استقبلت آلاف المنفيين، وبالخصوص العراقيين، بعد حرب التفتت التي فرضتها أمريكا على العراق، وتحملت تبعات الحروب بنفس إنساني سامٍ، تتغير لدرجة السير في المسلك المناقض. ندرك سلفاً صغر هذه البلدان ومحدودية طاقة التحمل لديها ونتفهمه، لكن الركض واللعب في ساحات اليمين المتطرف هو ما يجعل هذه التغيرات مثار أسئلة.
لم يعد سراً اليوم أن الدنمارك التي كانت أرض لجوء، وأيضاً محطة عبور اللاجئين إلى السويد وفنلندا، تغيرت كثيراً. الحكومة الليبرالية، ولأسباب سياسوية وانتخابية، أدخلت تعديلات كثيرة على قوانين الهجرة. لم تجد لمقاومة الهجرة الكثيفة من حل إلا بإصدار قانون يذكِّر بالحرب العالمية الثانية والممارسات النازية، حيث كان المهجّرون هم الحلقة الأضعف اجتماعياً، وهم من يدفع الثمن بالاستيلاء على أموالهم، وحتى القروش الضعيفة التي يحملونها معهم. حكومة الأقلية الليبرالية الدنماركية اختارت، حتى تحدّ من تدفق طالبي اللجوء، مصادرة كل ما يحملونه من مقتنيات ثمينة وأموال تصل قيمتها إلى أكثر من 3000 كرونه دنماركية، يعني 437 دولاراً، أثناء تفتيشهم على الحدود. ماذا تفعل هذه القيمة التي تترك لهم، عندما يواجهون خوفهم وجوعهم في أراضي الغربة والخوف، محملين بثقل عائلة وأدخنة الحرب؟ ماذا نسمي هذا؟ نهب موصوف تمارسه الدولة. طبعاً، هناك ردود فعل من المجتمع المدني، لكنها لا تكفي لتوقيف تطبيق هذه القوانين الخطيرة. مهم جداً، لكن لا يكفي أن يقول النائب الدنماركي في البرلمان الأوروبي، ينس ورد: لا يمكن أن يكون أمراً صائباً أن نقبل قيامهم بمصادرة آخر قطع المجوهرات وآخر قطرة كرامة من اللاجئين عندما يصلون إلى الدنمارك. أو ما استتبعه من قوانين قطع المعونة الاجتماعية عن اللاجئين.
يبدو واضحاً أن السلالات السياسية كما يسميها ستيغ لارسن في كتبه ضد اليمين المتطرف وضد العنصرية، وفي «ملينيوم»، هي من يسيطر على المجتمعات الشمالية التي تعودت أن تحكم، ولا تهمها المصائر البشرية، إلا وفق ما يحسن صورتها الإعلامية، مصلحتها السياسية، ويظل التوحش هو سيد كل شيء، والجريمة، كما تصورها «ملينيوم» بدقة متناهية الثلاثية. فقد خسر الليبراليون طريقهم عندما خضعوا لتوجهات حزب الشعب الدنماركي العنصري والمعادي للمهاجرين، للحصول على الأغلبية الضعيفة التي تؤهلهم للحكم. المشكلة الكبرى ليست فقط في أحزاب التطرف، لكن أيضاً في المجتمع الدنماركي الذي لم يحرك ساكناً أبداً وكأن العنصرية أصبحت مرضاً معمماً، مس المجتمع كلياً، وليس فقط القيادات السياسية المتحالفة مع أحزاب هي في الأصل ضد الإنسان.
رد فعل رود في هذا السياق، واضح: أتعجب وأبدي قلقي من أنه ليس ثمة غضب كبير بين الدنماركيين، وأنه ليس ثمة الكثير من الناس يهبون ويقولون إن ذلك لا يمكن أن يكون صحيحاً. أثنت وزارة الهجرة على مشروع هذا القانون الجديد لأنه سيمنح السلطات الدنماركية صلاحية تفتيش ملابس وأمتعة طالبي اللجوء والمهجّرين الآخرين، من دون السماح لهم بالبقاء في الدنمارك، وذلك بحثاً عن مقتنيات ثمينة تغطي نفقاتهم.
وتتوقع الدنمارك، التي بلغ عدد سكانها 5.6 مليون نسمة، وصول 20 ألف طالب لجوء هذا العام، مقارنة بنحو 200 ألف يتوقع وصولهم إلى السويد المجاورة. ويظل الليبراليون الضعاف يلعبون لعبة التوازنات حتى يحافظوا على وجودهم السياسي. فهم بين رحمة نواب حزب الشعب المتطرف، والديمقراطيين الاجتماعيين، المنتمين إلى يسار الوسط. لم تكن حالة المهجّرين في الجارة السخية السويد أفضل حالاً. هناك علامات تلوح في الأفق، عن الإبعاد القسري لعدد كبير من العراقيين برفض طلباتهم للجوء السياسي. وقد وصلت وثائق الطرد للكثير منهم، الذين لم يجدوا أمامهم من وسيلة تحميهم إلا التخفي.
وحسب تقديرات الهجرة سيطلب 40 ألف شخص اللجوء السياسي خلال العام الحالي، ولن تقبل من هذا العدد إلا القلقة القليلة. وسينخفض عدد طالبي اللجوء في السنوات المقبلة بشكل ملحوظ بسبب القوانين الضاغطة. في السويد التي تظل من أكثر بلدان الشمال استقبالاً للمهجّرين، بــــدأت القوانين الجديدة تفرض تحديداً للهجرة. في شهور قليلة انخفض حق الإقامة بالنسبة للعراقيين من 85٪ ليصل إلى 73٪ . وسيؤدي هذا إلى تكثيف عمل الشرطة لإبعاد الأشخاص الذين ترفض طلباتهم في الحصول على الإقامة. وتحضر دائرة الهجرة نفسها لإصدار قرارات صارمة لإبعاد 21 ألف شخص لم يحصلوا على الإقامة القانونية.
حتى فنلندا لم تشذ عن هذه الحملة. فقد أكد مسؤول في مكتب الهجرة الفنلندي على أنّ: مكتب الهجرة يأمل ويتوقع أن ينتهي من تدقيق معظم طلبات اللاجئين قبل عطلة الصيف القادم» مضيفا «وفي جميع الأحوال قد يتأخر بعضها حتى شهر آب. وكان مكتب الهجرة في فنلندا قد أعلن أن آخر الإحصائيات تفيد بوصول حوالي 32500 طالب لجوء إلى فنلندا عام 2015، بينهم أكثر من 20 الف عراقي. ومعظم هؤلاء اللاجئين قدموا من شمال فنلندا، عبر مدينة تورينو الواقعة على مقربة من حدود السويد حيث دخل فنلندا من خلالها حوالي 15 ألفاً. أفاد بأن التدقيق شمل حتى الآن حوالي 7000 ملف، فيما حصل حوالي 2000 شخص فقط على حق الإقامة، وعلى الباقي أن يستعدوا للطرد. وقد شهدت فنلندا إغلاقاً متواتراً للعديد من مراكز استقبال اللاجئين. وهذا يدل على أن المستقبل سيكون شديد التعقيد على المهجّرين حتى في البلدان الذين ظنوها مفتوحة على آلامهم وخوفهم، كما فعلت دائما، قبل أن تهب عليها رياح التطرف والعنصرية التي حذر منها ستيغ لارسن قبل عشر سنوات، وقبل أن تأخذه سكتة قلبية منعتنا من الأجزاء الرابع والخامس والسادس من «ملينيوم».

واسيني الأعرج

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد الكريم البيضاوي . السويد:

    في 2015 إستقبلت السويد: 162.877 منهم : 114.728 من الرجال
    149 .48 من النساء ومن الأطفال : 70.384 ومن الأطفال القصر 35.369 ( أرقام رسمية من مصلحة الهجرة ) أغلبهم جانحون للجريمة والمخدرات, أعداد هائلة لدولة صغيرة تعداد سكانها 9 ملايين نسمة , وهؤلاء ليسوا أول فواج للاجئين تعرفه البلاد. في الثمانينيات من القرن الماضي كانت الهجرة الجماعية للسريان والآشوريين من الشرق الأوسط أثناء حرب لبنان, أتت بعدها موجة البوسنيين أثناء حرب البلقان , تلتها موجة الصوماليين أثناء الحرب الأهلية الصومالية, تلتها موجة العراقيين والآن موجة السوريين.
    لاأدري لماذا سيلامون؟ هل تعلم أن الميزانيات التي كانت مخصصة لدور العجزة ولتحسين ظروف التعليم هذه السنة تصرف على إطعام اللاجئين وإيجاد مساكن لهم وبناء مدارس جديدة إضافية لتعليم أطفالهم؟ وزيرة المالية شاهدتها بأم العين تقول للأسف أوقفنا جميع الإصلاحات المقررة حتى نرى ماعلينا فعله فيما يخص اللاجئين. لاأدري لماذا يلام فاعل الخير إن اشتكى من ثقل الحمل نصفه بأوصاف غير صحيحة.
    أين إخوتهم العرب في الخليج الزاهي بخيراته وأنواره ؟ أليسوا هم أولى باللوم؟ . الصورة القاتمة التي صورها الكاتب لم أرها على الإطلاق. الصورة ليست بهذه القتامة السوداء, عنصريون موجودون, أناس خائفون على معاشاتهم وعلى وظائفهم موجودون, لكن في الوقت نفسه يقابله تضامن رائع جدا من الجهة الأخرى.
    أحتجاجات من بعض الجهات تظهر أحيانا لكن ليست بالكبيرة أو بالصفة التي ذكرت في المقال. للعلم أن مامقداره 63 مليار كرونة 6 مليارات من الدولار ستصرف على اللاجئين في ميزانية السنة الحالية ولن تكفي حتى نهاية السنة هل هذه الأموال من دافعي الضرائب جمعت كي تصرف على آخرين ضف إليها أنهم مسلمين , إخوانهم يعادونهم بحسب رأيهم.
    صورة غير حقيقية إطلاقا فيما يخص السويد بالخصوص والتي أنا على اطلاع جيد بها ومتابع لأحداثها.
    الشكر الخالص لؤلاء الناس, فتحوا أبواب دولتهم لأناس ليسوا من دينهم ولاملتهم , أغلبهم يدينون لدين يعتبرونه خطر عليهم ومع كل ذلك يلامون؟ غريب.

  2. يقول عبد الكريم البيضاوي . السويد:

    تتمة.
    كتب “ميلينيوم” هي سلسلة من روايات إجرامية ” crime novels ” وليست دراسة أو بحث علمي أو سرد لأحداث تاريخية علمية. كباقي الروايات الإجرامية يجب أن تحوي التشويق وخلق العقد ,ذاك ليس معناه أنها أحداث واقعية.
    من كتبه مثلا ” الرجال الذين يكرهون النساء ” و ” الطفلة التي تلعب بالنار” و ” قصر الريح الذي فجر”. هذه الكتب ترجمت لعدة لغات من بينها اللغة الإنجليزية, بحسب الناقذين السويديين كانت الترجمة الإنجليزية دون المستوى وانتقذت كثيرا. المترجم الأمريكي الذي ترجمها للإنجليزية اشترط استعمال اسم مستعار لأنه لم يكن مرتاحا لجودة الترجمة في مرحلتها الأخيرة.
    شخصية ” ليزبيت سالاندر ” استمدها من شخصية إبنة أخيه , و” بيبي ذات الجورب الطويل ” قصة وأفلام الأطفال الشهيرة.
    بيع من هذه الكتب أكثر من ستين مليون نسخة لحد سنة ألفين وإحدى عشر.

إشترك في قائمتنا البريدية