غيّب الموت يوم الجمعة الفارط وفي جنح الظلمة من قال ذات مرّة: «دع قلبك يتكلّم واستنطق الوجوه ولا تنصت إلى اللغات». رحل أمبرتو إيكو عالم السيميائيّات والفيلسوف والروائي الإيطالي عن سنّ تناهز 84 سنة. عرفه العالم بروايته «اسم الوردة» التي ترجمت إلى 43 لغة وتضمّنت هذه القولة الشهيرة التي تختصر رؤيته لمبحث السيميائيّات.
السيميائيّات أو علم العلامات فنّ ينصرف إلى دراسة العلامات حيثما وجدت، سواء أكانت علامات لغوية أو غير لغوية. وغير اللغويّة هي التي شغلت إيكو وبالتحديد العلامات التي يمكن تصنيفها ضمن الصور وهي كثيرة (رسوما، نقوشا، نحتا، صورا فوتوغرافية، بورتريهات، أفلام السينما…) هذه العلامات صامتة، ولكنها ثريّة بالدلالات حين تكون في سياقات معلومة ثقافيا واجتماعيّا، نجدها في الوجه حين تعبّر أجزاء فيه أو تقاسيم عن أشياء بها نتواصل، نحبّ ونكره نسخر ونمدح، بل نواعد في غفلة ممن يشاركوننا المكان ويعتقدون أنّ اللغات هي الوحيدة التي نتواصل بها. والحقّ أنّه يكفي أن نستنطق وجوه غيرنا لنوصل ما في قلوبنا ونستغني عن اللغات.
ينظر إيكو إلى العلامة انطلاقا من وظيفتها الثقافية؛ فالثقافات المختلفة حضرية أو تحمّل العلامات كثيرا من المضامين المصمّمة بإتقان، ولذلك فإنّ العلامة ليست ذات إحالات جامدة على محال عليه ثابت مثلما قد يعتقد، بل هي ذات مدلولات متجدّدة ومنفتحة لا يمكن أن تفكّك رموزها إلا داخل السياقات الثقافية والاجتماعية التي شكلتها وولدتها وطورتها. العلامات تتطوّر ويمكن أن تكشف لنا كيف أنّ الإنسان بدوره يتطوّر في نظام من العلامات.
قدم إيكو إلى السيميائيّات من غير طريق اللسانيّات، بل من طريق الفلسفة فهي اختصاصه الأصلي. كان يعجبه أن يطلّ على السيميائية من بوّابة الفلسفة مثلما فعل الفيلسوف الأمريكي شارل سندارس بيرس (1839- 1914) وهو يرى أنّ السيميائيّات مبحث لا يحتاج نتائج اللسانيّات. هذا التصوّر يريد أن يبني سيميائيات مستقلّة بآليّات تحليلها عن آليّات اللسانيات التي عمادها وضعت لعلامات لغوية مخصوصة.
أخذ إيكو من بيرس تصوّره الثلاثي للعلامة. فالعلامة حين تحيل إلى الشيء إمّا أن تكون أيقونة أو مؤشّرا أو رمزا. تكون أيقونة حين تكون مشابهة للشيء الذي تحيل إليه، وهذه حالة الصور بأنواعها؛ وتكون مؤشّرا حين تكون لها علاقة فيزيائية بالشيء، فالسحاب المكفهرّ مؤشّر على نزول المطر؛ ويكون رمزا حين تحيل إلى ذلك الشيء اعتمادا على قانون متواضع عليه، فعلامة الاتجاه الممنوع تحيل إلى هذا المنع من خلال قانون المرور.
وركّز بيرس على الصور بما هي رموز أيقونية وتوصّل في دراستها إلى كثير من النتائج، ما يهمّنا منها ههنا نقده لفكرة المشابهة التامة أو الفطرية التي ذكرها بيرس في تعريف الأيقونة، التي نقدها من قبله الفيلسوف والسيميائي الأمريكي شارل موريس (1901- 1979) فزاد إيكو التعريف تدقيقا وتناوله من زوايا نظر أخرى لها صلة بمنحى إدراكي للعلامة؛ ممّا يجعل مقاربته للأيقونة وللعلامة عموما ذات منحى سيكولوجي سيميولوجي.
إنّ دور السيميائيّات حسب إيكو، هو دور مشكلي فهي في أصلها لا تتوقف عند المظاهر ولا عند التجربة المشتركة، لأنّه لو توقفنا عند التجربة المشتركة لما كان من الضروري أن نتساءل عن الآلية التي بها ندرك شيئا ما، إذْ حَسْبُ التجربة أنّنا ندرك ما ندركه وكفى. ويرى إيكو أنّ علم النفس (المبحث الذي يتعلق بالإدراك) والسيميولوجيا (المبحث الذي يتعلّق بالتواصل) لا يشيّد صرحهما فعلا إلا حين ننقل عملية عفويّة من طابعها العفوي إلى طابعها المعقول. ففي حالة الغمز بالعين، لو أنّا أدركنا أنّ من غمز فعل ذلك من غير أن ينوي إيصال شيء ما لما تمّ لقاء غرامي أو لما تمّ التنبيه لشيء ولكان الغامز كمن طرفت عينه.
من الناحية الإدراكية يمكن ألا نرى التشابه بين الشيء وما يحيل إليه؛ فحين يصنع لي رسّام «بورتريه» فمن الممكن أن أدرك كثيرا من الفروق بين وجهي والوجه المرسوم فأنفي على سبيل المثال قد رسم في فضاء ثنائي الأبعاد، والأنف الحقيقي في فضاء ثلاثي الأبعاد، ومنخاريّ رسما بنقطتين سوداوين في حين أنّهما فتحتان واسعتان.. لهذا السبب عدّل مورس تعريف بيرس فاعتبر التشابه في بعض المظاهر وليس تشابها تامّا. نحن لا نرى وفق إيكو تشابها بين الصورة والمحال إليه، وإنّما يبني إدراكنا التشابه بين ما نعيشه على صعيد الصورة وما نعيشه على صعيد التجربة الواقعية. فعلى سبيل المثال حين أكون في مقهى ويضع النادل أمامي قهوة ساخنة بعطر الهيل، فإنني وأنا أرى فنجان القهوة والبخار المتصاعد من الكأس وأشمّ رائحة الهيل العبقة أكون قد استخدمت هذه المثيرات الحسيّة للتأليف بين عناصرها فأدرك اعتمادا على تجربتي بأنني إزاء قهوة بالهيل. ولنفترض أنني أشاهد في التلفزيون قهوة وفنجانا مختلفا وشاربا مختلفا وحديثا عن الهيل، فإنني سأستحضر اعتمادا على المثيرات البصرية ما استحضرته نفسه اعتمادا على المثيرات الحية وأنا إزاء قهوة فعلية: أنا إذن أشعر بمثيرات بصريّة وأربط بينها في بنية مُدركة.
إنني أشتغل على معطيات التجربة التي توفّرها الصورة مثلما أشتغل على معطيات التجربة التي يوفرها الشعور، فأنا كما يقول إيكو أنتجها وأبنيها وفق أنظمة توقّع وافتراض مردّها إلى التجربة السابقة، وبالتالي بالنسبة إلى تقنيات تعلّمتها، إي وفق جملة من السُّنن. إن العلامات الأيقونية لا تمتلك خصائص الشيء الممثل مثلما ذهب إلى ذلك بيرس، بل هي تعيد بعض شروط الإدراك المشترك على أساس السنن الإدراكية العادية، وبانتخاب هذه المثيرات يمكن أن أشيد بنية مدركة تمتلك، بالنسبة إلى سنن التجربة المكتسبة، الدلالة نفسها التي في التجربة الحقيقية المعنية بالعلامة الأيقونية. إنّ المشابهة التي بين الأيقونات والشيء تعمل عملا مقنّنا اعتمادا على جملة من السّنن ولقد ذكرنا سابقا السنن الإدراكية وهي المتمثلة في توفير بنية مدركة فيها تشابه بين التجربة والصورة. يضاف إليها ما يسميه إيكوبسنن التعرّف. ذلك أنّ في الصّور قواعد تجعلنا نتعرّف من خلالها على الشيء المحال عليه ولذلك ننتخب عناصر نعتقدها أساسيّة ومفيدة في عملية التعرّف.
فحين نرسم السيارة نحن ننتخب بعض عناصرها لا كلها وهكذا فإنّ المُشكل الذي يطرح ههنا في تعريف العلامة الأيقونية بأنّها تمتلك بعض الخصائص التي في الشيء الممثل هو: هل أنّ هذه الخصائص المشتركة هي التي نراها أم هي التي نعرفها؟ حين يرسم طفل سيارة بعجلات أربع، هو يعيد تمثيل الخصائص التي يعرفها ثم حين يتعلّم بعد ذلك كيف يضع في سنن هذه العلامات ولا يمثل السيارة إلا بعجلتين (بحجة أنّ العجلتين الغائبتين لا نراهما) فإنّه لا يعيد إنتاج كلّ الخصائص بل الخصائص التي يراها كذلك.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
توفيق قريرة