الصمت لغة خاصة جدا، لغة يفهمها أغلب الناس، فالصمت في حيّز المجتمع يعتبر أحيانا احتجاجا، وأحيانا أخرى قد يعبر عن خجل وحياء، وفي أحيان مختلفة قد يعبر عن الحرج من الرد، ويختلف دائما مفهومه تبعا لاختلاف اللحظة والموقف. عندما يقرأ الشاعر قصيدته فإن فترات الصمت التي تتخلل قراءته تفسح المجال للمستمع كي يستغرق في رؤية الصور.
والصمت في اللوحة قد لا نسمعه ولكننا نراه، هو حيّز فارغ أو لون نستغرق فيه ويضيء كل ما حوله، الصمت في الموسيقى لغة كاملة، قد تمهد لانتقالة من سلّم لآخر، أو من حالة لأخرى، وفي كل الأحوال يفسح صمت الموسيقى لتشكيل موسيقى أخرى ولرسم حالة مختلفة، من خلال استغراق المؤلف والمستمع أيضا في لحظة الصمت.
عندما أتأمل راقصة باليه وهي تؤدي حركاتها الراقصة كفراشة تطير وتتلمس الأشياء من حولها، خصوصا عندما تصاحبها موسيقى ريمسكي كورساكوف، الذي يرسم مساحات واسعة من الصمت، أشعر بحالة تمزج بين التأمل الذاتي الخالص والاستغراق في المشهد الذي ترسمه حركة راقصة الباليه، خصوصا عندما تتوقف الموسيقى بحركة انتقالية بارعة وتقف الراقصة على أصابعها، كأنها تشير إلى توقف حركة العالم كله. العالم خُلق في مزيج بين الصمت والصوت، فالماء من دون رياح صامت تماما، والبحر من غير الهواء والحياة التي تعيش فيه صامت أيضا، كذلك الأشجار والورود، كل هذه الأشياء وغيرها تصمت عن الصوت، لكنها ترسم صوتا لمشاهدها. الهواء يحرك الأصوات وينتجها مختلفة في كل مرة، حتى في حنجرة المغني يلعب الهواء ألعابه المختلفة. الصمت في الموسيقى يهيئ حالة لتفريغ الهواء، أو جمعه كله في لحظة ليفرغ تماما ويتوقف. وتبعا للمبادئ البوذية فإن الصمت أساس من أساسيات الحياة، فمن دونه لن نستطيع التأمل كما لن نستطيع فهم ما حولنا. قال بوذا «ولدت مع نور بداخلك فاصغ لصوت الصمت والسكون، ذلك الصوت الداخلي سيقودك ولا يمكن لأحد آخر أن يوجهك ولا أن يصبح مثلك الأعلى لأنك فريد واستثنائي».
إذن ووفقا لبوذا فإن الصمت أيضا صوت، هو صوت الأنا الأعمق والأكثر تعبيرا، بل هو مدخل لفهم عميق ليس للشخص بنفسه وحسب، بل بكل ما يحيط به. في الموسيقى يغريني الصمت بالقدر نفسه الذي يغريني به اللحن، وإذا فكرنا بما قاله الدوس هكسلي: «بعد الصمت، ما يأتي أقرب إلى التعبير، يوصف بأنه الموسيقى»، نفهم أن الصمت لازم لكي تأتي الموسيقى. كما قال أفلاطون أيضا: «عندما تترك الكلمات تبدأ الموسيقى». من فوائد الضجيج أحيانا أنه يكشف لنا جماليات الصمت بكل شيء، وغالبا عندما أكون في مكان يعلو فيه صوت الضجيج، سواء عبر الموسيقى أو عبر أصوات مختلفة أشعر برغبة كبيرة في الهروب كي أتنفس بعمق وأزفر مع أنفاسي آخر ملوثات الضجيج من روحي وقلبي وفكري معا، أي أفرغ هواء صدري الذي امتلأ وفاض بالضجيج.
يعمل الكثير من الموسيقيين على مساحات الصمت خلال تلحينهم لمقطوعة موسيقية، وقد نرى غالبا ذلك في الموسيقى التصويرية التي ترافق الأفلام، فبينما يرسم مخرج الفيلم حركة صامتة على وجه أحد أبطاله، أو داخل كادر الكاميرا تلعب الموسيقى لعبة نقل المشاعر والأحاسيس، سواء بالصمت أو بموسيقى تشبه الصمت، وتجعل المشاهد يستغرق أكثر داخل المشهد. يحتاج المؤلف الموسيقي لمساحات واسعة من الصمت تقوده إلى التأمل ومن ثم الاستغراق الكلي في الذات، ومن دون هذه الحالة تخرج موسيقى أشبه ما تكون بموسيقى إلكترونية قد تعجبنا لكنها لن تتغلغل داخلنا ولن ترسم مشاعرنا العميقة. وأعود لأفلاطون الذي قال: «إن تعرض جهازنا الحسي لوابل مستمر من الصور السريعة الحركة، والموسيقى، والمؤثرات الصوتية، يؤدي في نهاية المطاف إلى أن تصبح قدراتنا على اتخاذ قرارات عقلانية إزاء أي شيء أمرا صعبا».
حينها يكون اللجوء إلى الصمت لمسح كل هذا الضجيج، حالة احتياج حقيقية داخل الإنسان، ولهذا نجد أن أغلبنا يبحث عن إجازات يقضيها في أمكنة صامتة وبعيدة لا يُسمع بها إلا ألحان قد تكون منسوجة من داخل الصمت ومن قلب نسيجه. هناك من الموسيقى ما نسمعه ونشعر معه بحالة الصمت التي تأخذنا إلى عالم التأمل، ونجد أن من يمارسون اليوغا يلجأون أحيانا إلى هذا النوع من الموسيقى التي ترسم جدارا خفيا بين المتأمل وبين العالم خارج إطاره، حينها تكون الموسيقى نفسها سليلة الصمت ونتاج صمت شاعري مفرغ من عالم الخارج وضجيجه. كلنا نحتاج الصمت في حياتنا كي نرتقي ونرتفع إلى حالة أعلى، وليس من الغريب أن يلجأ معظم الأنبياء والقديسين ومن شابههم إلى حالات خلوة للوصول إلى نشوة أعلى عبر اتصال خفي بصانع الكون وخالقه، فالصمت طريق يقود إلى السماء لأنه ببساطة يقود إلى الداخل، وكل داخل يغتني بحالة السكوت المطلق. وكما قال النفري: كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة.
موسيقي عراقي
نصير شمه