القبلة القنبلة…

حجم الخط
6

انفتح العالم على بعضه بعضاً كما لو كان أواني مستطرقة، انهارت الجدران والأبواب، وانحسرت المسافات، لم تعد هناك رقابة ولا حدود على ما نرى ونسمع.
الفتاة أو الشاب الذي كان إغلاق الباب عليه يعني محاصرته لم يعد مجدياً، العكس هو الصحيح، إغلاق الباب أمامه يعني خلوته مع جهاز الحاسوب أو الهاتف، وقد تكون هذه الخلوة محبّبة إليه أكثر من الخروج، فهي فرصة للحديث الحر تماماً وحتى نقل صور إلى صديق أو عشيق، وهذا يعني أن الرقابة الخارجية التقليدية بالمفتاح والقفل انهارت، علماً أنها منهارة منذ ألف ليلة وليلة، ولكن على نطاق أضيق!
وبات من الضروري تعويضها بتنمية الرقابة الداخلية لدى الأجيال الصاعدة، وتدريبها على التحكم بميولها وغرائزها، والتوعية الفنية الصحيحة، ورفع الذائقة للتمييز بين الركاكة والتفاهة والغرائزي، وبين العمل الفني الراقي الهادف، فاحترام الإنسان لنفسه ينبع من داخله ولا يفرض عليه.
شبان وشابات هذا الزمن في المدارس الثانوية يملكون الهواتف، وبتمويل الأهل، هذا يعني أن التواصل مع العالم الخارجي لم يعد مشكلة، وباستطاعة من يشاء مشاهدة وسماع ما يشاء! يُخطئ الأهل من جيل ما قبل الهاتف النقال والشبكات العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي إذا واصلوا التعامل مع الأبناء كأن شيئاً لم يحدث! لأن المعركة في مواجهة التكنولوجيا الحديثة خاسرة حتماً، ولم يعد يجدي سوى التوجه لعقل ووعي الشاب والشابة.
في الأسبوعين الأخيرين أثيرت ضجة حول قيام مدرّس مسؤول عن النشاطات اللامنهجية في مدرسة ثانوية في مدينة باقة الغربية في منطقة المثلث الفلسطيني بعرض الفيلم الفلسطيني «عمر»، وهو فيلم حقق نجاحاً جيداً جداً، يحكي عن القمع الإحتلالي وجدار العزل العنصري مُطعّما بقصة حب! في الفيلم مشهد اعتبره بعض الأهالي خادشاً للحياء، وهو مشهد قبلة ساخنة بين بطلي الفيلم! وهناك مشهد تظهر فيه خلفية البطل عارية ربما أثناء تسلقه الجدار (هذا المشهد حجبه المدرّس بوضع كفّه على جهاز التشغيل). بعد يومين من العرض جاء اثنان إلى ساحة المدرسة واعتديا على المعلم (وهو الكاتب علي مواسي) الذي عرض الفيلم لطلابه، فتقدم المعلم بشكوى للشرطة، فأمرت المحكمة في حيفا بإبعاد الرجلين المعتديين عن المدرسة وعن المعلم وتغريمهما، إلا أن البلدية ردّت بفصل المعلم من عمله!
المشكلة سببت توتراً وأثارت نقاشاً حاداً وآراء ومواقف مختلفة!
هنا تطرح ثلاثة مواقف، موقف المعلم ومؤيديه الذي يقول إن الفيلم عُرض في صالات كثيرة عشرات المرات إحداها في المدينة نفسها بل وبرعاية من بلدية باقة الغربية نفسها قبل عامين، ولا يوجد في الفيلم ما يخدش الحياء، ويعللون موقفهم بأن الفضائيات أصبحت في كل بيت وكل أسرة ترى الرقص الشرقي والأجنبي والمسلسلات والأفلام الأجنبية والمصرية القديمة (كلاسيك)، وفيها ما هب ودب من من القبلات والمشاهد والكلام الحميم أكثر بكثير من فيلم «عمر» الذي يصنف كعمل سياسي وطني!
والذي أثار مؤيدي العرض أن قضية فيلم «عمر» هي إضافة تراكمية لحالات سابقة مُنعت فيها عروض مسرحية وغنائية وأفلام ودبكة مشتركة بين صبايا وشبان وسباق في الجري للنساء وأمسيات فنية غنائية في مختلف أنحاء فلسطين. الأمر الذي يعني أن المعركة ليست على مشهد عابر في الفيلم، بل هي على نهج حياة، هي معركة على حرية التعبير، وعلى حرية الفن والإبداع، وليس فقط على مشهد بذاته!
أما معارضو عرض الفيلم أمام الطلاب ومنهم رئيس البلدية، فحجتهم أن مشهد القبلة في الفيلم، وظهور خلفية البطل العارية أمام الطلبة (التي لم تظهر في الواقع)، فيه خدش لحياء الطالبات والطلاب، وأن الموافقة على مشاهدته تمنح شرعية لمزيد من هذه المشاهد «التي لا تستقيم وأخلاق مجتمعنا»!
أما الرأي الوسطي فيقول إنه كان يجب عرض الفيلم أولاً على لجنة من أولياء أمور الطلاب وهم يقررون إذا ما كان عرضه صالحاً للطلاب أم لا! ولكن ماذا لو كانت لجنة أولياء الأمور نفسها محافظة! حينئذ ستفرض رؤيتها على الجميع بكل الفنون وليس فقط في فيلم عمر، والعكس صحيح..إذا كانت اللجنة من «العلمانيين» حينئذ سيفرضون رؤيتهم المنفتحة على الجميع.
اتخذ البعض من»قضية» القبلة الساخنة في الفيلم فرصة للهجوم على ما أطلقوا عليه «قوى الظلام والظلامية والداعشية»، ووصل الأمر ببعضهم وبانتهازية لتبرير موقفه المسبق المؤيد للاستبداد بحجّة محاربة ما يسميه القوى الظلامية والدواعش، وأن من يمنع عرض فيلم الآن قد يقطع رأسك غدا!ّ طبعاً ليس هذا منطلق جميع مؤيدي العرض، وخصوصاً المعلم نفسه الذي له موقف واضح ضد أنظمة الاستبداد والظلم.
أما المعارضون لعرض الفيلم فهم يختبئون وراء «القيم والأخلاق والمبادئ والتقاليد» لمهاجمة المؤيدين لعرض الفيلم، ويستثمرون هذا الموقف لتعزيز نفوذهم من خلال تحويل القبلة إلى قنبلة!
باعتقادي على القوى التي تقول إنها محافظة وترى بالقبلة الحميمة خطاً أحمر وتعتدي على مدرّس وتفصله من عمله أن تستيقظ من سباتها، وأن تفهم أن شبكات التواصل الاجتماعي بمتناول كل الناس والطلاب، ويا حبذا لو بقي الطلاب عند أفلام مثل فيلم «عمر»! وبدلا من افتعال توتر في مثل هذه القضية التي لا أعتقد أنها تستحق، علينا جميعاً أن نعمل على تعزيز مناعة الأجيال الصاعدة وليس أن نخيفها من مشهد قبلة، كذلك فإن التفاهم حول قضايا خلافية كهذه يجب أن يكون من خلال الحوار والتفاهم، وبالتأكيد ممكن الوصول إلى تفاهم وحلول، إلا مع قلة قليلة متزمتة.
في خضم هذه الزوبعة حول قبلة «عمر» أذكر الجميع بأن إسرائيل سنت قانون «الحسمسة» قبل شهر فقط، الذي يسمح للشرطي بأن يفتش ويجس و«يحسمس» باليد على المؤخرة وما بين الساقين لأي شخص مشبوه وحتى أن يعرّيه لمجرد الشك في نواياه أو بشكله، الأمر الذي يعني أن كل هؤلاء المختلفين على مشهد القبلة قد يجدون أنفسهم خاضعين لـ(الحسمسة) في لحظة ما في مكان عام، وحتى التعرية أمام شخص غريب! والجميع يعرف مدى «نزاهة» الشرطة الإسرائيلية التي داخوا حتى وجدوا لها قائدا يقال إنه لا يحمل في تاريخه عملاً مشيناً مثل الكثيرين من سابقيه والله أعلم.

سهيل كيوان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رياض- المانيا:

    شكرا استاذ سهيل. المشاهد الخادشة للحياء مرفوضة مبدئيا في كل مكان وزمان. المشكلة تكمن عندنا في التعامل مع القضايا وحلها دون تحطيم الاواني. المعلم اخطأ في عرض الفلم ومنتقدوه افرطوا في ردة فعلهم، النتيجة الحتمية هي انقسام وفتنة في المجتمع المستفيد الرئيس منها هو الاحتلال الذي حسب تعبيرك ( يحسمس) على الجميع!! الوازع الديني وتربية الاطفال هي خط الدفاع الاول لحمايتهم في هذا العصر الذي انتشر فيه العري والابتذال في كل مكان، المهمة صعبة، نعم. ولكنها ليست مستحيلة ابدا.

  2. يقول لؤلؤ/ كندا:

    يا سيدي سمعت عن الفلم ووصوله الى الأوسكار وأصريت ان نشاهد الفلم كعائلة وَيَا ليتني لم اصر ، الفلم خادش للحياء من قبلات وألفاظ نابية علما بأنني اعتبر نفسي معتدلة وبطبيعة الحياة في كندا فان ابناءي معرضون لمشاهدة مواقف خادشة للحياء حتى في مدارسهم وفي ما يقرأون من كتب مدرسية ولكن اسمح لي فأنا نفسي لم اسمح لنفسي مشاهدته ولو كنت لوحدي

  3. يقول منى*الجزائر*.:

    قرأت عن هذا الموضوع اكثر من مرة….
    عرض فيلم سينمائي في بيئة محافظة فيه مجازفة كبيرة…
    كان يجدر بالمعلم ان يقص المشهدين فقط لأن الرسالة السياسية في الفيلم هي بيت القصيد وليس القبلة…لكي لا يتعرض للإهانة والتنكيل….
    وتبقئ السينما في عالمنا العربي بعيدة المنال سواء من حيث القيمة الفنية ؛أو من حيث الجمهور الذي لايزال يربطها بكل ساقط وفاحش للأسف….
    السينما من أقوى وابرع ادوات الإتصال ؛ يمكنها صنع المعجزات على الصعيد الفردي او الجمعي…
    لكن محدودية السينمائيين العرب الا القلة منهم ؛هي من حولتها الى جريمة …..
    تحية لك استاذ سهيل كيوان دائما استمتع بكل ماتكتب…..
    وتحية ل د.رياض ولكل الإخوة المعلقين….

    1. يقول رياض- المانيا:

      وتحية لك استاذة منى ولكل القراء والمعلقين.

  4. يقول عربي حر:

    تحية للكاتب المحترم
    كل ممنوع مرغوب
    خطأنا الدائم أننا نصرخ ويعلو صراخنا ضد كل ما لا يعجبنا
    فنساهم بصراخنا بشهرته فنصبح مثل الدبة التي قتلت صاحبها

  5. يقول Samaher:

    يقال ..قُـمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ التبجيـلا كـادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي يبني وينشئُ أنفـس..هذا القيم التي حملنا بها حتى بلغنا وحملنها لاجيال بعد اجيال علما بأن المعلم قدوة وقصوة ورمزا للخلق والتربيه الصالحه ..ولا ازرع بذرة شك واحده تنبت على مبدأ لا يتساوى مع هذا المبدأ ..وظيفه المعلم ان يعلم ان يرشد ان يفصل ما بين الصح والخطأ..حتى منح شرعيه اللاحياء في الدين والعلم …
    تركنا الغايه من وراء الفيلم ووقفنا ورفعنا الرايات جهلا وتخلفا مقهورين محظورين منبوذين لشطره لا تدرك او تكاد تلغى في بحر واسع من رسالات القيم والاخلاق ..في مجتمع يعتقد انه بلغ من التحضر ما يكفيه وبلغ من السمو ما يجعله شاهقا فوق كل المجتمعات التي لا زالت تتعايش ضمن التقيد حد التعصب في اسس اجتماعيه وعلميه ودينيه صعبه ..
    حتى ديننا مبني على جادلهم بالكلمة الطيبه والموعظه الحسنه ..فكيف لنا ان نترك مباديء الرد المتحضر ونسعى خلف تخلفنا وتحصبنا ونحن مجتمع يعشق القشور ويفضلها على الجوهر …
    لنحاسب انفسنا اولا ولبحث عن دواخلنا وقيمنا كل داخل صومعته الخاصه ..لاننا حقا لا زلنا مجتمعات في زحفها الاول نحو التحضر …
    بوركت الكاتب سهيل مقاله عدا عن عظمة الحروف تستحق ليس فقط المرور بل الوقوف والتفكر فيما تحمله السطور وما بين السطور …

إشترك في قائمتنا البريدية