المسابقات الغنائية والمجتمع

حجم الخط
0

هل لبرامج المسابقات الغنائية أو الفنية بوجه عام فوائد على الصعيد المجتمعي؟ أم أنها مجرد أوقات للترفيه؟ هذا السؤال كنت أجيب عليه وأنا أتابع « the kids voice» خلال الفترة الماضية.
انتبهت إلى ظاهرة ذات جمال متناه، حيث يصطحب الوالد والوالدة غالبا أطفالهم إلى المسابقة، ويتابعون الأطفال بقلق بالغ، بينما ترتسم على وجوههم مشاعر تنم عن افتقارهم لما يقدمه الطفل أو الطفلة، تنظر العائلة إلى طفلها وهو يغني على خشبة المسرح وكأنما الأب أو الأم هما المتسابقان، فنراهم متلهفين إلى النتيجة وكأن اعينهم ترسل رسالة خاصة إلى لجنة التحكيم قائلة ارفقي بطفلي.
هذه الظاهرة ليست مجرد حالة شعورية، فعلى الصعيد المجتمعي نحتاج في مجتمعاتنا بشدة إلى برامج كهذه تنمي مواهب الأطفال والشباب تجاه الفنون والموسيقى على وجه خاص، تدعم حالتهم النفسية وتقودهم بعيدا عن العنف والقتل الذي تشهده ساحات بلادنا في الفترة الحالية.
أيضا فإن ظاهرة جيدة بدت واضحة، فالموسيقى أصبحت داخل كل بيت، ولا يجد الأهل حرجا في أن يعلنوا أن اطفالهم يمتلكون مواهب غنائية، بل على العكس يتفاخرون بهذه المواهب ويحاولون دعمها وصقلها بمختلف الطرق، حالة كهذه لا ترتبط فقط بواجهة البرنامج، بل تذهب أبعد من هذا، فهي تعيد للفنون احترامها، وتؤكد دورها الرئيسي في بناء مجتمعاتنا.
في بيت العود العربي، كنت أرى غالبا الأمهات يصطحبن أطفالهن لدراسة العود، أو سواه من الآلات التي تدرس في البيت، وهذا كان يشعرني بسعادة، خصوصا أن الأهل هم من يصرون على تدريس أولادهم الموسيقى.
في زمن قديم مضى، كانت الآلات الموسيقية ودراستها خصوصا للبنات تتم داخل عوائل ذات وضع اجتماعي ينتمي إلى الأرستقراطية أو ما دونها بقليل، ونادرا ما كنّا نجد عوائل من طبقات غير غنية تقدم على تعليم أولادها الموسيقى، المسألة لم تكن مرتبطة فقط بالقدرات المالية ففي بعض الدول كانت الموسيقى تُدرَّس بلا مقابل، كانت أيضا مرتبطة بالمستوى الثقافي أو التعليمي الذي ناله الآباء.
في برامج المسابقات الفنية لاحظت أن المشاركين ينتمون إلى طبقات مختلفة، كما أنهم يأتون من مناطق مختلفة، فلم تعد المدينة هي المصدر لهذه المواهب فقط، بل جاء دور الأطراف أيضا لتقديم الفنون.
في العراق برز الكثير من الأصوات التي تمتلك خصوصيات في التطريب والموسيقى، وغالبا ما تنبهت إلى أن أغلب هذه الأصوات لم تأت من العاصمة بل من أطرافها، كان الفرق بالنسبة لي لافتا، فالعواصم تتيح دراسة الفنون، بينما يغيب هذا الاهتمام في الأطراف ويكاد يتلاشى أحيانا، أدركت حينها أن من يشق طريقه من الأطراف نحو المركز بإصرار لا بدّ أنه يمتلك خصوصية تدفع به لمغامرة ابن الطرف في المركز، لهذا كنّا نجد أن من يشقون طريقهم من الأطراف كانوا يسجلون حضورا لافتا ويتركون في تاريخ الغناء أسماءهم بقوة.
في «the voice kids» لفتني هذا الاهتمام، ولفتني أيضا هذا الإصرار ليس من المتسابقين وحسب، بل من ذويهم الذين يسافرون ويتنقلون من أجل إيجاد بيئة حاضنة لمواهب أطفالهم.
والحق أنني كنت أتابع البرنامج وأنا أحيانا مغمض العينين لأستمع إلى طفلة أو طفل يشدون ويطربون ويغنون بأداء سليم، وكنت ما أن أفتح عينيّ عند التصفيق أنظر إلى الطفل مليا كأنما أريد أن أتأكد من أن هذا الطفل هو من غنى في الحقيقة.
أغلب الأطفال أو من هم على خطى المراهقة ممن شاركوا في البرنامج يمتلكون أصواتا جميلة، وبعضها متميز جداً تجعل المستمع يريد أن يتأكد من أن ما يسمعه يخرج فعلا من حنجرة من يقف أمام الكاميرا على المسرح.
ثقة بالنفس لا بدّ أن المدربين بنوها فيهم، وقفة واثقة، تنقل على خشبة المسرح بسلاسة خبرة لا هواية فقط، غناء ذكيا ربما هو التعبير الأجمل عن أغلب الأصوات التي شاركت في البرنامج.
أطفال ينطلقون من ملاعب اللعب إلى ملاعب مسؤولية حقيقية، يتنافسون بحب، ويتنافس المدربون من خلالهم، ويعرف كل طفل قدراته غالبا فيختار من المدربين ما يشبهه ويشبه ما يريد أن يكون في المستقبل، وربما كانت حصة الفنان القدير كاظم الساهر حصة جميلة من أصوات طربية تستطيع الوصول بغنائها إلى حالات النشوة الطربية القادرة على سحب الآه من الجمهور ببساطة.
على صعيد شخصي كنت أتابع نجمة الكور ابنة عازفة العود المعروفة وأستاذة في بيت العود بعد أن تخرجت منه شيرين تهامي، خصوصا أنني أعرف اهتمام شيرين العميق بتنمية موهبة طفلتها منذ نعومة أظفارها، كنت أنا أيضا أتابعها بلهفة أب وخوفه، وكان حضورها لافتا، رغم عدم استمرارها في البرنامج الذي أتمنى أن يستمر ويكبر مع أطفاله ومدربيه، كما أتمنى أن يكون حالة قابلة للازدياد، لأنها حالة تعيد احترام الفنون داخل بيوت عوائلنا.

موسيقي عراقي

نصير شمه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية