كما يدعونا المثال المأثور لأخذ الحكمة من أفواه المجانين، فلعله يصح أيضاً أن نتلقى النبوءات (أو ما تبين لاحقاً كونها نبوءات) من الطغاة الساقطين، خاصةً إذا كانوا محدودي الذكاء متبلدي الشعور كمبارك، إذ يبدو أن أمثاله من المخلوقات «بركة»، يجلب حسن الطالع والستر من عند الله سبحانه وتعالى، كما نقول في مصر.
وإنه وإن كنا في زمنه التعس نعتقد بنحسه (والشواهد والكوارث على ذلك كثيرة لا يحصيها مقال، ولعل أقربها للذهن، في المأثور الشعبي الدارج أيضاً، زلزال عام 92 والعبارات الغارقة والقطارات المحترقة، وأنه لم يحضر مباراة للنادي الأهلي إلا وخسر)، إلا أن لاحقيه حفظهم الله لم يقصروا بدورهم، فقد تكفلوا بجلوه وتلميع صورته حتى صار الناس يترحمون على ستر الله الذي كان يشمل البلد في زمنه، فيبقي المركب طافياً بإعجاز، كما يترحمون على طاغيةٍ كان «ملو هدومه»، أي محترماً يملأ مركزه مطمئناً، وبالتالي يمارس العنف بحساب وسياسة، محافظاً على مخايل ما يشبه الدولة شبهاً بعيداً لزوم الديكور، مقارنةً بالعنف المسعور الغشوم الآن. على كلٍ هي حلقاتٌ متتابعة تفضي فيها واحدةٌ للأخرى، فالأشياء والظواهر ليست وليدة الصدف. قال المخلوع الأول مبارك «خليهم يتسلوا بصدد «البرلمان الشعبي» الذي اعتزم من لم ينجحوا في الانتخابات إقامته في مقابل الآخر «المطبوخ» الذي ضرب أحمد عز وشركاؤه مكوناته في الخلاط، بغباءٍ شديد وانعدام حرفية مبتدئٍ هاو وغشمٍ هو الآخر، فأصاب النظام المتهالك بعسر هضمٍ شديد، تصدع معه الإطار الشكلي الذي كان يحافظ على مخايل شبه الدولة التي ذكرنا. ويبدو أن ثمة التباسا ما حصل في أسلاك المقادير نتج عنه أنه حين تحققت النبوءة جاءت التسلية جمةً بالفعل، لكن لاحقاً وفي صورٍ مختلفة في عهد شخصٍ آخر، المارشال الآتي من رحم نظام مبارك ومن مؤسسته العسكرية، حيث كان رئيساً للمخابرات العسكرية.
في عددها الصادر في 1 نوفمبر 2015 نشرت جريدة «التحرير» خبراً عن رفع القاضي الجلسة في قضية تنظيم» أجناد مصر» الذي يصفونه بالـ»إرهابي» بعد مشادة كلامية حادة، وتشابك بالألفاظ بين هيئتي الدفاع والمحكمة، لما تبين لمحامي المتهمين أن موكليهم غير موجودين في قفص الاتهام، وأن بعضاً من الموجودين (ما شاء الله كانوا كثراً يزيدون على الأربعين) لا يمتون لتلك القضية بصفة إذ صاحوا، «إحنا مش أجناد». توقفت مندهشاً فترةً طويلة أمام ذلك الخبر الهلامي الغرائبي، ولصق في ذاكرتي ما علّق به بعض المعارف تهكماً: «سيرك يا عالم». على وفرة العبث وموجبات الدهشة والعنصر الغرائبي وتكرارها يومياً ما بين تراشقات إعلاميين مسفين وأحكام إعدامٍ بالجملة، وجدت أن جرعة العبث والهزل الأسود بلغت مرحلةً أعلى، على الأقل في ما يصلنا. تصور معي، أشخاص لا علاقة لهم بقضية يساقون كالدواب من سجنٍ يقبعون فيه في سيارةٍ مصفحة، فيمثلون في قفص اتهامٍ في قضيةٍ قد تنتهي بالمحاكمين فيها إلى المشانق، من دون أن يدري بهويتهم أحد. قد يتفذلك أحدهم فيرد بأن الأمر واللبس كان سيكتشف لا محالة إن عاجلاً أو آجلاً، لكن ذلك لا ينفي العبث وانعدام الكفاءة والاستهتار. لكن المهازل لم تتوقف عند هذا الحد إذ تتوالى العجائب، ولعل آخرها الحكم بالحبس على أربعة أطفال بتهمة ازدراء الأديان،
أجل هو سيرك، تتوالى وصلاته واحدة تلو الأخرى، حتى تجدني أتوقع أن يدخل عليّ المهرج راكباً عجلة (ألم يفعلها؟) وفرقة البهلوانات، حتى الوصلات والفقرات التي يفترض أن تكون جادة تحرك المشاعر تؤدى برداءة تبعث على الضحك، كرئيسٍ يبرهن على صدق مشاعره بإعلانه عن استعداده لبيع نفسه، بعد أن دعا لحملة تسول لإنقاذ مصر، التهريج صار سمة المرحلة بسياساتها، سياسيةً كانت أم اقتصادية مشروعات عظيمة ترتب لها تشريفات وأغانٍ ويحشد لها الناس، ثم يتضح عدم جدواها بل وضررها الفادح على الاقتصاد، ليتأكد أن النظرية القائدة والملهمة للنظام للخروج من مأزقهم الوجودي هو «الحركة بركة» فيندفعون جارين الناس وراءهم، وفي حالة الجيش مستغلين تلك القوة العاملة التي تعمل بالسخرة في حقيقة الأمر.
بيد أن الضحك ليس صافياً، بل يطفح مرارةً وغيظاً، وخوف من المستقبل يعتصر أمعاء الناس وهم يرون البلد يتهاوى في سقطةٍ حرة، خاصةً أن توأم العبث والتهافت والتهريج هو الاختفاء القسري والسجون والعنف والدم والتصفيات، من دون محاكمات لأناسٍ يخبروننا بأنهم «إرهابيون «.
في مصر نظامٌ متهاو يخطئ من لا يدرك واقعه أو يخدع نفسه، فالدولة المصرية تحوم بجدية وتصميم على تخوم الدولة الفاشلة، لم تنجح حتى في أن تصل إلى ذرى جمهوريات الموز في أمريكا اللاتينية، فليس لديها ما تصدره سوى العنف والفقر في صورة مهاجرين غير شرعيين، ناهيك عن نزيف الخبرات، حتى جمهوريات الموز تلك تطورت وتقدمت فأسقطت الكثير من طغمها العسكرية وشرعت تبني مجتمعاتٍ تعددية أكثر تحرراً، متحديةً في أحيانٍ كثيرة الهيمنة الأمريكية التقليدية.
نحن شيٌ أكثر رثاثةً وابتذالاً من ذلك: نحن جمهورية سيرك، وفئاتنا الحاكمة أكثر جهلاً وتفاهة وإن لم تكن بالضرورة أقل عنفاً.
للتلخيص، نحن نراقب طبقةً ودولتها تحتضر، لكنها تفعل ذلك بابتذالٍ هزلي، ابتذال في كل شيء، في العنف والعشوائية، نجاحهم الوحيد يتمثل في جعل أعدائهم يستخفون بهم ويسخرون منهم وتلك خطيئةٌ قاتلة ولا تغتفر في عالم السياسية.
٭ كاتب مصري
د. يحيى مصطفى كامل
نعم جمهوري السيرك (الأسود)
ولا حول ولا قوة الا بالله
فعلا انها جمهورية سيرك و لكن يبدو انها مستمرة و باقية بدليل استمرار شخص في مستوى مبارك الذهني على سدة الرئاسة لمدة 30 عاما و تصدر السيسي المشهد مع طاقمه منذ ثلاثة ثلاثين شهرا مع كل ما يجري ومع انخداع الملايين.
احشى ان الكارثة قد حدثت فعلا بسبب ان تردي انظمة التعليم في الخمسين عاما الماضية و تفشي الفساد وتجريف اهل الفكر قد فعلت فعلها و اصبحت البلاد غير قادرة على النهوض مرة اخرى