عندما يبدأ الموسيقي في تشكيل هويته الموسيقية، فإنه يخطو نحو رسم أسلوبه الفني، ولكل فنان حقيقي أسلوبه، وعدا هذا فهو مجرد تقليد، والأسلوب ليس مجرد هوية فنية، بل هو طريقة تعبير وأداء كما أنه محكوم بأسس كثيرة ليس أقلها محيطه وتقاليد مكانه الذي عاش وترعرع فيه.
قال أرسطو في الأسلوب: «حقاٰ لو إننا نستطيع أن نستجيب إلى الصواب، ونرعى الأمانة من حيث هي، لما كانت لنا حاجة إلى الأسلوب ومقتضياته، ولكن علينا أن لا نعتمد في الدفاع عن رأينا على شيء سوى البرهنة على الحقيقة، ولكن كثيرا ممن يصغون إلى براهيننا يتأثرون بمشاعرهم أكثر مما يتأثرون بعقولهم، فهم في حاجة إلى وسائل الأسلوب أكثر من حاجتهم إلى الحجّة… «والأسلوب هو الذي يحكم العلاقة بين الأفراد في المجتمع، كما يحكم العلاقة بين الفنان وجمهوره، وإن كان أرسطو رأى أن الأسلوب هو طريق لإثبات صدقنا في نقل مشاعرنا وإيصالها إلى الآخر، معتبرا أن الأسلوب ووسائله يمثل الصيغة الإقناعية للآخر المتلقي، فإن بوسع الأسلوب نفسه أن يكون برهانا كافيا لإقناع الآخر بما يسمعه أو يتواصل معه.
والأسلوب عندما يتكرر يصبح تقليدا لا أسلوبا، وهناك بعض من يلتجئ إلى أسلبة نفسه وفنه ضمن خط معين، أو في نطاق فنان آخر، محاولا أن ينتج أسلوبه الشخصي أو هويته الفنية التي تدل عليه فيفشل في خلق شخصيته الخاصة، ونجد أنفسنا حينما نستمع إليه كأنما نستمع إلى حالة تكرار سبق أن كانت في ذاكرتنا، بل لا تزال تحيا بها.
سارق الأسلوب لص، ربما لا نستطيع أن نحاكمه بمعايير اللصوصية، ولا نستطيع أن نطلق عليه حكما، لكننا بوسعنا أن نعيّن سرقته أحيانا تحت تعبير «تأثير» والتأثير نفسه صنوف متعددة، فهناك من يتأثر داخل إبداعه الشخصي، وهناك من «يتأثر» داخل نمط السرقة الفنية.
في الدراسات النقدية العربية غابت إلى حد كبير الدراسات التي تختص بالموسيقى وفنونها، وعندما بدأ مفهوم الأسلوبية والأسلوب يُتداول بين النقاد، كان هذا التداول ينحصر داخل اللغة بوصفها الوعاء الأمثل لتمثيل الأسلوب، في الموسيقى اللغة ليست بلاغية ولا واضحة يسهل تعيينها، فهي ليست لفظية بالمعنى النقدي للغة، فالموسيقى بناء صوتي لا يُمثل وحده لو كان متقطعا لغة مفهومة، وأعني أننا لو عزفنا المي مثلا أو الدو فإن سماع هذه النغمة منفصلة عن سياقها لا يُمثل معنى متكاملا، في حين تستطيع اللغة بمفرداتها أن تأتي بالمعنى، فكلمة مثل «سلم» لها معنى متكامل، وقد يصبح الترادف بين الموسيقى والمفردة حالة جائزة لو اعتمدنا أحيانا على مقاربة كلمة ما بجملة موسيقية متكاملة حتى نستطيع إيصال حالة شعورية، فالحالة الشعورية في الموسيقى لا تتحقق إلا بتكامل جملة موسيقية بشكل قادر على إيصال مشاعر معينة.
وعودة لأرسطو الذي اعتبر أن الأسلوب نوع من وعاء لتغليف الفكرة وبالتالي تحقيق برهان صدقها، فإنني أرى مثلا أن اللغة والشعر تحديدا يستطيع في بعض الأحيان تغليف الأسلوب حسب أرسطو بالنص، بمعنى أن الشاعر يستطيع خلال إلقاء القصيدة أن يلون في أسلوب قراءاته بحيث ينقل المعنى بشكل أقرب إلى الصدق، أو بشكل أقرب إلى تمثيل المعنى، لكن الشاعر هنا ينحو إلى تلوين الأداء عبر الأداء الموسيقي، هو لا يعزف الموسيقى لكنه يلون أداءه (ديناميكية الأداء) بحيث تأتي القصيدة مموسقة.
إذن الموسيقى بوسعها أن تكون أسلوبا قادرًا على الوصول والبرهنة على صدقها، فالأسلوب حسب أرسطو وتبعا لما أفهمه هو التلوين في الكلام والنبرة التي ينتج من خلالها هذا الكلام.
موسقة الحياة أسلوب أيضا يتبعه البعض من أجل إيصال صدقهم، لكن هل يعني هذا أن الموسيقى دائما صادقة؟ وهل يعني أيضا أنها تُخلْق وبرهان صدقها معها أثناء ولادتها؟ يحتاج الأسلوب إلى دربة وتمرين، فلا يكفي أن تكون الحياة أسلوبها فينا، ولا تكفي البيئة التي ولدنا بها لتصنع أسلوبنا، فهناك من قد ينشق عن بيئته ليذهب نحو مكان مغاير ويبني أسلوبه على أرضية جديدة بفعل التحصيل التكويني في تلك الأرض والثقافة، فالثقافة هي التي تبلور الأسلوب وتجعله أكثر حضورا وصدقا.
الخطيب المثقف يستطيع أن ينتهج أسلوبا في خطبته يجعله يوصل أفكاره للآخرين بصدق، كذلك الشاعر والرسام والكاتب والصحافي وكل ما يشكل خطا للتواصل بين الجمهور ومبدع ما.
الثقافة أساس الأسلوب، لأنها تمنح للمثقف الحق في الخيار، والحق بالخيار لا يكتمل إلا عندما تتعدد الخيارات أمام المبدع.
الثقافة أساس لأي خيار في الحياة، ولذلك فإن التلاقح بين الثقافات نفسه يشكل أسلوبا مختلفا، وكلنا استمعنا إلى تجارب فنية قامت على أرضيات مغايرة، ومزجت بين ما تربت عليه وشاهدته وسمعته في بيئتها وما اغتنت به بفعل التلاقح والقراءة والسماع والبحث.
موسيقي عراقي
نصير شمه
بما أن للأصوات اللغوية ، تلك التي تبني الجمل الشعرية مثلاً ، موسيقاها المصاحبة للذبذبات التي تولدها ، فالكثير من الأشعار تعطي موسيقاها عند سماعها
يااااا هااجررْني!
كلمتين فقط ، إلاّ إنهما موسيقى فقط ،،،، حروف علةٍ غنية
كتبتهما كما يمكن أن يتغنى المرء بهما ….معاتباً حبيبه !