هل كان من الممكن للرواية العربية وحدها ومن دون تحولها إلى فيلم سينمائي أن تنال كل هذه الشهرة؟ بحيث يصبح شخوص نجيب محفوظ بدءا من سي السيد، أو أحمد عبد الجواد بطل الثلاثية، وسعيد مهران بطل «اللص والكلاب» وعيسى الدباغ بطل «السمان والخريف» معروفين على نطاق شعبي واسع، ويتحولون إلى أمثلة، وأحيانا أمثولات في الحوارات اليومية؟
إن نجيب محفوظ نفسه يجيب عن هذا السؤال، ويعترف بدور السينما في شهرة روايات لهذا كتب محفوظ سيناريوهات لأفلام منها ما هو ليس مأخوذا من رواياته.
أكثر من ذلك أصبحت بعض الشخصيات مثارا لتأويلات شعبية حول أصلها التاريخي والواقعي كصابر الرحيمي في رواية «الطريق» الذي رأى بعض نقاد محفوظ أنه يرمز إلى جمال الدين الأفغاني بشعره الأسود الناعم ولقبه وهو السيد، ولم يقتصر الأمر على نجيب محفوظ، ففي رواية «شيء من الخوف» لثروت أباظة، التي تحولت إلى فيلم سينمائي أصبح اسم عتريس بطلها رمزا شعبيا للاستبداد، كما أصبح اسم رشدي التابع لعتريس والمفتون به حدّ التلاشي في كيانه بحيث انتهى إلى الجنون، رمزا للإمّعة والذات المقهورة المستلبة.
وذات يوم قال البعض إن زوربا أصبح أكثر شهرة من مؤلفه كازانتزاكي، وكذلك هاملت بالنسبة لشكسبير، وكان للسينما والمسرح دور في ذلك، لهذا حين ترجمت بعض الروايات التي تحولت إلى أفلام إلى اللغة العربية كانت أغلفتها صور أبطال الأفلام كأنطوني كوين في «زوربا» ومارلون براندو في «العراب»، وغالبا ما يطرح سؤال في هذا السياق هو كم يضاف إلى الرواية كنوع أدبي حين تتحول إلى فيلم وكم يحذف منها!
طرح هذا السؤال مرارا، سواء فيما يتعلق بنجيب محفوظ أو ستيفان تسفايج في رواية «أربع وعشرين ساعة في حياة امرأة»، وكانت الإجابات مُتفاوتة منها ما رجح الإضافة إلى النصّ، ومنها ما رجح الحذف والخسارة الفنية، أما أطرف الآراء، فقد كان حول ما تجسّده السينما سواء للأمكنة أو الشخوص، فالرواية كنصّ تتيح المجال للقارئ كي يتخيل ويجسد تبعا لما يريد، لكن السينما تضع حدا لهذا الخيال، بحيث يختلط الأمر على المتلقي، ويزول الفارق بين أحمد عبد الجواد في الرواية وبين يحيى شاهين في السينما، أو بين زوربا كما هو وبين أنطوني كوين.
وما حدث للرواية وهي تتحول سينمائيا وتتضاعف جاذبيتها للمتلقين، حدث من قبل لقصائد مكتوبة بالفصحى، ومنها ما هو على درجة من الغموض بالنسبة للعاديين من الناس، لهذا ما كان لـ»أطلال» إبراهيم ناجي وقصيدة أبي فراس في الاسر، وبعض قصائد نزار قباني ومحمود درويش أن تصل إلى المتلقي لولا وساطة الصوت والموسيقى، وقد يكون أحد أسباب العزوف الشعبي عن الرواية والقصيدة ابتعاد السينما والغناء عنهما في العقود الأخيرة، ولولا هذا الابتعاد لكانت الذائقة العامة أرقى، والحساسية أكثر شفافية.
إن ما يضيفه السيناريست إلى الروائي قد يكون استكمالا أو بمثابة استدراك لما قدّمه الروائي، كما حدث في رواية نجيب محفوظ «القاهرة 30»، حيث أضيفت بعض المشاهد إلى محجوب الذي قدّم نموذجا يرى فيه الناس أمثولة في الشذوذ والقبول بمقايضة مهينة لإنسانيته ورجولته .
وفي المقابل قد يحذف السيناريست ما لا يراه قابلا للتجسيد، وعلى سبيل المثال كانت الأصابع في رواية تسفايج هي البطل الحقيقي للرواية، لأن المرأة التي قررت المغامرة خارج الحياة الزوجية الرتيبة ليوم واحد فقط أقامت عن بعد علاقة مع أصابع لاعب روليت. والأمر نفسه تكرر في رواية «الفهد» للأمبيدوزا، وهي روايته الوحيدة التي قال الناقد فليتشر أنها أعادت إلى كلمة الإنجاز اعتبارها ومعناها الحقيقي، فبطل الرواية يرقّص أصبعيه على طريقة التانغو أثناء ضجره، وهو جالس بالقرب من مدفأة الحائط .
إن الخوف كما قدمته رواية أباظة «شيء من الخوف» يتجسد على نحو يثير القشعريرة في والد الفتاة فؤادة، وبعد كتابة الرواية بعدة عقود هتف متظاهرون مصريون في الشوارع «زواج فؤادة من عتريس باطل» تعبيرا عن موقف سياسي ضد نظام مبارك والموقف من التوريث السياسي، فهل كان لهذه العبارة في رواية أن تتحول إلى شعار جماهيري لو لم تتحول إلى فيلم سينمائي؟
وبعد عقود أيضا من استخدام فؤاد المهندس في إحدى مسرحياته الكوميدية عبارة لا يوجد في القانون زينب، سمعت من مثقفين مصريين منهم رفعت السعيد ومن مواطنين عاديين هذه العبارة وهم يعلقون على حادثة لم يكن الاحتكام فيها إلى القانون دقيقا!
وبعد عدة عقود من كتابة محفوظ لرواية «ثرثرة على النيل» وتحولها إلى فيلم سينمائي بالابيض والأسود يردد الناس عبارة الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسنا، تعبيرا عن الاعتراف بالتخلي، وتلك العبارة رددها أنيس في الرواية بعد أن رأى مدن القناة وقد تحولت بعض أحيائها إلى أطلال بسبب القصف الإسرائيلي وكانت تلك لحظة الصحوة من غيبوبة الحشيش والعدمية التي عاشها أبطال الرواية في عوّامة على النيل.
فهل هناك بعد كل تلك الأمثلة من يشكك في جدوى الجدلية بين الفنون؟ سواء كانت روايات تحولت إلى أفلام أو قصائد مغناة؟
وبمعزل عن السجال حول ما تخسره الرواية أو ما تكسبه من السينما، فإن مكوث مقولات وشعارات ومواقف ومفاهيم في الذاكرة العربية بفضل السينما أمر يجب أن تتم مراجعته بوقفة أطول وأكثر تفصيلا!
كاتب أردني
خيري منصور
تحياتي استاذ خيري منصور: هناك جدلية بين ما يكتب ويقرأ وبين الفنون مثل السينما او الاغنية، فأحيانا روايات لم يقرأها احد وجدت طريقا يالسينما واشتهرت هي وابطالها. والسينما الغربية منها الانجليزية على الخصوص أكثر دقة في نقل احداث الرواية الى مشاهد سينمائية. واذا ما تقصينا الامر بدقته فالسينما اخرجت شخصيات تاريخية كان يرددها الحكواتي وجعلتهم ابطال يعيشون بيننا مثل عنترة بن شداد والزير سالم وقيس بن الملوح وابو زيد الهلالي وغيرهم. وما يمثل مفارقة أن السينما تتلاعب في مصير ابطال الرواية وتختزل الرواية الى شيء لا يمكن هضمه مثل الاخوة كارامازوف والتي اخرجت بفيلم مصري (الاخوة الاعداء). كما أن المسرح لعب دورا كبيرا في اشهار المسرحيات وخاصة بعصر النهضة في اوروبا,.وهو تقليد اكتسب من تقاليد روما القديمة. فكانت المسرحيات تكتب لتمثل على خشبة المسرح مثل مسرحيات موليير ومن ثم اشتهرت. وانا معك استاذ خيري يجب أن يأخذ مثل هكذا جدلية على محمل الجد ودراستها بشكل مكثف.
تحياتي : مقالك كالعادة يا أستاذ خيري منصوررائع ومتمييز…أرجوك الدخول على
الرابط التالي ؛ لمجلة أعناب القطرية عدد آذارــ مارس 2016 ؛ ص 20/ 21 :
http://media.al-sharq.com/
portalfiles/pdfissue/a3nab_20160306.pdf
مع التقدير.