جورج طرابيشي… شرق وغرب وما تبقى من الخراب

حجم الخط
0

الكتابة فعل لإلغاء الفناء، أو محاولة لإدراك شيء من هذا العالم، وكنه الوجود، كما عمقه وغموضه، وفي معظم الأحيان ضآلته وسطحيته، ولعل هذا يكاد يقترب بصورة أو بأخرى من منجز جورج طرابيشي، الذي كان من أشد المفكرين العرب إحساساً بما ينطوي عليه العالم عامة، وعالمنا العربي خاصة، من إشكاليات عميقة، بدءاً من أزمة العقل العربي، مروراً بأزماته الحضارية والفكرية المستعصية، وانتهاء بكتل الهزائم التي ما فتئت تتوارد واحدة تلو الأخرى. طرابيشي كان من العقول العربية التي سعت جاهدة إلى توصيف، أو تحليل هذه النواتج عبر الحفر المعرفي في تكوين الإنسان العربي، وهذا ما جعل الرجل متعدد القلق، أو متأملاً كما ناقداً، ومترجماً، وباحثاً، وفيلسوفاً، وأكاديمياً، وما إلى ذلك، فالرجل كان أشبه بمن يضرب في كل اتجاه للتخلص من فائض القلق والتساؤلات التي على ما يبدو قد ثقلت عليه، فسعى بكل من أوتي من قوة لاكتناه طبقات وحقول معرفية متعددة كما يتضح من إنتاجه الضخم.
لا شك أن طرابيشي ينتمي إلى ذلك الجيل الذي بدأ كبيراً، كما كان مؤمناً بأن هذا العالم ينطوي على قيم حقة، بالتوازي مع إيمان بمعنى العروبة التي يمكن أن تسير قدماً، إنه تفاؤل غير مكتمل، لكون المعطيات المتوفرة بدت في عصره غير مجدية، غير أن التفاؤل كان مرده الإيمان بأن الثقافة، يمكن أن تقود إلى المثالية المطلقة، حيث الحرية والعدالة والمساواة. وكي نتمكن من المضي، كان لا بد من البحث في طبقات من العقم الفكري، ومحاولة إذكاء القدرات العقلية الكامنة في الوعي العربي الذي سكنه العديد من الإرهاقات النفسية والعصبية، ولهذا شرع طرابيشي في مشروع فكري، يهدف إلى مقاربة العقل العربي، وما طاله من نقد، ولا سيما كتابات محمد عابد الجابري، وعلى الرغم من أن هذه المشروع كان محورياً، غير أن طرابيشي كان فاعلاً ومميزا في عدد من أعماله التي شكلت وعياً جديدا من خلال مقاربات في مجال النقد الأدبي، ما يجعلنا نعدّ عمله «شرق وغرب ـ رجولة وأنوثة» من المتون التي أثرت الثقافة العربية، بل إنها تركت كل الأثر على مشهدية النقد العربي عبر مقاربة تستند إلى تلمس أدوات الدراسات الثقافية، والخطاب ما بعد الكولونيالي، حتى قبل أن تتبلور هذه التيارات في البيئة النقدية العربية. وعلى الرغم من أن مقاربة طرابيشي بدت ذات منحى نفسي- اجتماعي في هذا العمل النقدي المركزي، غير أنها استندت إلى قدرة مدهشة على تطبيق مناهج معرفية متعددة، وهذا ينم عن قدرات في استثمار المخزون المعرفي الهائل في الذات العربية، وتكونها، فضلاً عن صوغ وعيها، ولكن في ضوء الآخر.
لقد شرع طرابيشي الباحث الموسوعي في قراءة نقدية عربية لعدد من الروايات العربية في ضوء ثنائية الشرق والغرب، أي تلك النزعة الذكورية في مجال تأنيث الآخر بالاستناد إلى موروث ذكوري لا يخضع فقط للمنطق الشرقي، بل يتعداه إلى حدود الكوني، كما يتبدى في مقدمة الكتاب، غير أن طرابيشي سرعان ما قاد وجهة بحثه نحو اكتناه الغربي في مجال حيوي، يتصدره الشرقي في محاولة من تأنيث الغرب، بالإضافة إلى محاولة الاقتصاص منه عبر انتهاكه جنسياً، غير أن هذا لا ينتج بفعل تكوين نفسي ثقافي جيني، كما أنه ليس نتاج تماثل عصابي خاص بالشرق فحسب، إنما ثمة عناصر مضافة إلى ما سبق، وتتمثل بالماضي، أي الانطلاق من ذلك الموروث لمتخيل الذات الذكورية الشرقية التي فقدت قواها، بالتوازي مع ذلك الصدام الحضاري بين الشرق والغرب، ممثلاً بالتركة الاستعمارية، ما أنتج مركبات نقص عانت منها الذات الشرقية في مواجهتها للآخر الغربي غير البريء من عين الداء.
إن التّنازع على القيمة الذكورية أساس الانهيار القيمي الذي يعاني منه عالمنا المعاصر، لقد استجاب طرابيشي إلى فهم متبصّر حين استعان بمقولة فرانز فانون حول قيم الانتهاك الممارسة والعنف من قبل الذّات المستعمِرة على الذات المستعمَرة، والعكس بالعكس، ولكن ثمة فارقا واحدا، ونعني مجال التنازع على مركزية الذكورة، ومحاولة تحييدها عن الطرف الآخر، إنه فعل استعلاء عرقي، وطبقي وثقافي. هذا المجال لفهم هذه النتائج لما يكن ليتأتى لولا اختبار واكتناه النص، ولا سيما الرواية التي عبرت عن ذلك بجلاء. إن أداة التحليل النفسي تبدو فاعلة حين نوجه منظوراتنا النقدية إلى هذه الوجهة، فإنها بلا شك لن تخيب، ولن تكون ضرباً من التأويل؛ ولهذا بدت كتابات جورج طرابيشي باعتبارها نسقاً متكاملاً من الفهم للذات، وقدرة متبصرة، وصلدة في تأسيس تحليل ذلك النموذج العصابي للذات العربية التي ترتهن إلى الرغبة بالانتقام، أو إلى استعادة فعل التحكم، أو السلطة، وإلى يومنا هذا، ما زال عالمنا يحتكم إلى هذا التنازع على قيم الذكورة بوصفها سلطة، تسمح بأن تكون قائداً لا منقاداً، مهيمناً لا مهيمناً عليه، هكذا توصل طرابيشي عبر عدد من الروايات لكل من عبد الرحمن منيف، وتوفيق الحكيم، وسهيل إدريس والطيب صالح، وغيرهم. هذه الأعمال التي عدت مراكز قوى في المدونة السردية العربي لكونها قاربت ما لم ندركه إلا عبر الأدب بوصفه مرآة لذواتنا، وهذا يحيلنا إلى أثر التكوين السردي، وقدرته على حمل التمثيلات، وتشخيص مراكز العطب في الوعي الثقافي لأمة ما، فالكتابة في حدود الإبداع تبدو أكثر ديمومة من كافة المدونات الفكرية والنقدية، وغيرها، وهو ما شكل حسرة لدى كاتب ومفكر بارز كرولان بارت الذي أدرك محدودية النقد وديمومته.
إن مقاربة طرابيشي لهذه الروايات لم يكن إلا رغبة في إماطة اللثام عن طبقات من قدرة العقل العربي على التوازن، والذي ما زلنا نعاني منه أشد ما يكون في السنوات الأخيرة، إن الماضي السلطوي سواء أكان ناتجاً بفعل الاستعمار، أو بفعل السلطة الوطنية، والطبقة، والنخب، ومحتكري الخطاب سوف يؤدي لا محالة إلى إنتاج أفعال من الانتقام، ربما يرتد جزء منها إلى الذات الجمعية، ولنقرأ شيئاً من هذا التوصيف في عبارات لطرابيشي يقول فيها: «وزوال الاستعمار بشكله الاستيطاني والاحتلالي المباشر، لا يغير كثيراً من طبيعة العلاقات بين المستعمر السابق والمستعمر السابق، فالذكريات ما تبرح حية، دامية محرقة، والمشاعر ما تزال متأججة، والاستغلال الاقتصادي الإمبريالي الجديد وغير المباشر ما يفتأ يقوم بدور الاسترقاق الكولونيالي المباشر نفسه، ثم إن الأمة المستعمرة سابقاً ما تزال، بفعل عملية المثاقفة، أي استرداد ثقافة المتروبول، تحس إحساسا ساحقاً بدونيتها « المؤنثة» إزاء «الرجولة» ثقافة الغرب وفحولتها». إن إشكالية العقل العربي لو أردنا أن نضيف جملة تفسيرية في كتاب جورج طرابيشي، تكمن في أن الشرق لا يرغب في أن يغادر الماضي المتصل بذهنية الذكورة، وهنا لا نقصد تلك القيمة المعرفية الممثلة للخطاب بتكوينه التاريخي، إنما نعاني الماضي بوصفه ذاتاً، تكويناً يحيل إلى معنى بذاته، فنظرتنا للماضي يشوبها اختلال نفسي عميق، فهي بمثابة ذاكرة تسكن جسداً، غير أن هذا الجسد كان قائماً أو مميزاً بذكورية مفرطة، أو حتى بناء ذهنيا استيهامياً عميقاً، يهدف إلى إنهاء الآخر، حتى لو كان هذا الآخر بمعنى المخالف بمفهومه المطلق، ومن هنا، فقد تحولت الذات بتكوينها العصابي إلى نزعة لتدمير الذات التي بدأت تتشظى عربياً، فالإشكالية لم تعد تقصر على ذات مستعمِرة أو مستعمَرة، إنما بدأت تنحو، وتطال كل شيء، فالذات العربية بدأت تأكل ذاتها، وهذا ما سوف يقود إلى تلاشيها حضارياً، ولكن شيئا فشيئاً.
ما زال الشرق شرقا، وما زال الغرب غرباً، بل إن الشرق أضحى أكثر شرقية، والغرب أكثر غربية، حيث الكل يتنازع الذكورة الزائفة، والعالم بات مجالاً لتأنيث المقابل، الآخر، ولعل طرابيشي لم يغادر الحقيقة حين أدرك، وهو يضع كتابه «شرق وغرب» قبل أكثر من (39) عاماً إلى أن المثاقفة قادت إلى المزيد من العنف نتيجة الإحساس بالعنة الثقافية، كون التثاقف قد كشف عن ضعف المستعمَر، فكان لا بد من استجلاب ذكورة الماضي، غير أن مثاقفة يومنا هذا، تبدو أشد وطأة وجنوناً، إذ لم تعد مثاقفة، إنما أمست عالما تقوضت جدرانه، لا حدود فيه سوى ببناء جدران إسمنتية كما يرغب دونالد ترامب، وكما تفعل إسرائيل، لقد تضاءلت المسافات الفاصلة، مما أحدث تسارعاً بفعل قوى العولمة التي بدت ساحة لتسويق الأفكار، وإعادة نقلها وتداولها، وهكذا باتت العوالم الافتراضية لاعباً منتجاً في تكريس وفهم تلك النزعات العصابية، وتداول معنى الذكورة، ولكن على مستوى دول، أو ثقافات، أو أمم، إنها أمراض على مستوى الدول.. كما يقول فرانز فانون، لقد بات هذا مجالا حيوياً لأي جماعة، تفترض أنها تمتلك منظورا لتصدير الذكورة، وتأنيث الآخر، أو بعبارى أخرى أن أكون ليموت الآخر.
حين وضع طرابيشي كتابه كان يحلل نصوصاً، حملت مواجهات مبكرة مع الغرب، فالذات الشرقية أدركت حدودها بوصفها ذات فاعلة أصابت جزءاً من الحضارة، إذ هي راحت لتكتشف الحضارة، فتلقت صدمة تتمثل بتفوق الآخر، واستعلائه، لقد كان هذا متحققا تبعاً لبدء صدور تلك الأعمال قبيل منتصف القرن العشرين، حيث كانت المواجهة الحضارية بين الشرق والغرب تحتكم إلى منظور قريب قوامه تجربة استعمارية دافئة، ووعي شرقي متزامن بمجال نهضوي طارئ وجديد، غير أن المواجهة الحضارية لم تعد تحتكم إلى سياقات واختبار، إنما بدت أشبه بحالة من السيولة، أو تلك الكتل الشمعية التي احترقت، وتداخلت مكوناتها لتنتج عالما أشبه بتشكيل غير متعين، مخلوق مشوه، لقد بات حرمان شخوص روائيين كتوفيق الحكيم، والطيب صالح، وسهيل إدريس، وعبد السّلام العجيلي، وعبد الرحمن منيف ما هو إلا فعل هامشي مقابل ما نشهده اليوم من حرمان لا جنسي فحسب، إنما حرمان سلطوي مدمر، أو مزمن. ومما يلاحظ أن المقاربة الأخيرة لطرابيشي في كتابه قد وجهت لرواية عبد الرحمن منيف «الأشجار واغتيال مرزوق» التي تؤرخ لما بعد الحقبة الاستعمارية، أي أنها إحالة للشرق، أو الذات العربية التي تعدّ نتاج هزيمة 1967 … ما أوجد نموذجاً لشرق مستقل، ولكنه مستبد جداً. لقد رحل جورج طرابيشي بعد أن ترك إرثاً كبيراً، ولكنه رحل، وما زال في نفسه شيء من رغبة لفهم هذا العالم، وتناقضاته، ولكنه رحل أيضاً مع الكثير من المرارة لأوطان طالها الخراب.

٭ كاتب فلسطيني ـ أردني

رامي أبو شهاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية