لم تتوقف حركة الاحتجاجات الشعبية اليومية، في معرة النعمان، ضد جبهة النصرة، منذ قامت الأخيرة بالهجوم على مقرات الفرقة 13 التابعة للجيش السوري الحر، قبل نحو أسبوعين، وقتلت عدداً من مقاتلي الفرقة وأسرت آخرين.
وأصل الحكاية هي مشاركة أهالي البلدة في إحياء الذكرى الخامسة لانطلاق الثورة السورية بمظاهرات شعبية رفعت علم الثورة وشعاراتها الأولى، وشارك فيها، إلى جانب الأهالي، مقاتلو الفرقة. بل إن أحد ضباطها ألقى خطاباً في الجمهور اعتبر فيه الجيش الحر في خدمة الشعب وتحت إمرته.
شكَّلَ مضمون هذا الخطاب، إضافة إلى استقلال الحراك الشعبي السلمي ورمزية الذكرى والعلم والشعارات، إنذاراً بالخطر الشديد، من وجهة نظر الفرع السوري لمنظمة القاعدة الذي يقوده رجل ملثم ينتحل اسم «أبو محمد الجولاني» ظهر أكثر من مرة على محطات تلفزيونية، بلا وجه طبعاً، ليتحدث كقائد سياسي متمركز الاهتمام حول السلطة. ليس مجرد سلطة عسكرية مؤقتة تعمل على فرض «النظام العام» كضرورة لإدارة الشؤون العامة في أي مكان، بل سلطة شمولية تسعى إلى فرض قيمها على المجتمع، وتتدخل في أدق التفاصيل من شؤون محكوميها وحياتهم الخاصة، وفقاً لمفهوم متشدد للإسلام، غريب على البيئة الاجتماعية في سوريا، لا يترك للناس أي هامش للمبادرة.
وعبَّر رد الأهالي على تجبر «الجبهة» وانتهاكاتها، عن وعي متقدم بطبيعة الصراع، فواجهوا سطوة السلاح بالتظاهر السلمي، ووضعوا الجبهة وقائدها في مرمى شعاراتهم وأغنياتهم. فالشعارات والأغنيات ذاتها التي هاجموا بها النظام الكيماوي المجرم، في الماضي، حوَّروها بإدخال اسمي الجبهة والجولاني. فتحولت عبارة «ساقط ساقط يا بشار» إلى «ساقط ساقط جولاني» كما في المقطع الأتي:
«نحنا نحنا المرتدِّين
بدنا نعلمك كيف الدين
أيامك صاروا خالصين
ساقط ساقط جولاني»
فقد سقط النظام في مناطقهم قبل سنوات، وإن كان ما يزال يلاحقهم بطيرانه وقنابله كعدو خارجي يحاربهم من وراء حدود مناطقهم المحررة، في حين تتمثل السلطة الغاشمة، لديهم اليوم، بجبهة النصرة التي تحاول منعهم من التظاهر السلمي ضد النظام الكيماوي، وتمزق الأعلام الوطنية التي يرفعونها، وتنقض غدراً على أبنائهم من مقاتلي فصائل الجيش الحر. مدهش ما يتضمنه السطران الأول والثاني من صراع على مفهوم الإسلام، بين طرفين من المفترض أنهما ينتميان إلى الدين نفسه. فالمنظمات السلفية الجهادية عموماً، وليس النصرة وحدها، تعاملت مع السكان، حيثما فرضت سيطرتها العسكرية، على أنهم منقوصو الإيمان وبحاجة إلى من يعيد تربيتهم وتثقيفهم في شؤون دينهم ودنياهم. الأمر الذي اعتبره الأهالي إهانة لهم في ضمائرهم، فردوا بأقسى ما يمكن أن يكونه الرد من منظور الاعتقاد الديني: «نحن مرتدُّون!». تنطوي هذه الجملة على معنى التحدي والاستنكار، لا معنى الاعتراف بما قد تتهمهم به الجبهة وأخواتها من ردّة أو كفر أو «جاهلية». فقد أرادوا أن يعبروا عن رفضهم لـ»إسلام جبهة النصرة» أو «الإسلام» القاعدي، من غير أن يعني ذلك تخليهم عن ذلك الإسلام الشعبي المرن العلماني ـ الدنيوي إذا جاز التعبير الذي طالما آمنوا به ومارسوه في حياتهم اليومية. كما ردوا على سعي الجبهة لإعادة تربيتهم وتعليمهم شؤون دينهم بالقول: «بدنا نعلمك كيف الدين»!
إذا كان التمرد الشعبي على سلطة جبهة النصرة أخذ هذا الشكل الحاد، وإن كان سلمياً، في معرة النعمان، فالحراك الشعبي الثوري لم يقتصر على هذه البلدة. ففي معظم المناطق المحررة استعاد الأهالي تقليد المظاهرات السلمية ضد النظام، منذ دخل اتفاق «وقف الأعمال العدائية» حيز التنفيذ. وتكيفت فصائل المعارضة العسكرية مع هذا الواقع الجديد، وتجنب معظمها الوقوع في الحماقة التي وقعت فيها النصرة في المعرة. والفصائل غير الإسلامية من الجيش الحر شاركت عموماً في المظاهرات، بل وجدت فيها سنداً في مواجهة التنظيمات السلفية الجهادية.
لم تجد هذه الحيوية المستعادة في الحراك الشعبي السلمي، وخاصة تمرد المعرة ضد النصرة، الصدى الذي يستحقانه في المحافل السياسية، بمقابل استعادة النظام الكيماوي لمدينة تدمر من تنظيم داعش الذي تسابقت الدول الغربية والأمم المتحدة للترحيب والتنويه الإيجابي بها، مع غض النظر عن الارتكابات الفظيعة للميليشيات الموالية من نوع قطع رؤوس من وقع في يدهم من عناصر داعش، والتقاط الصور ومقاطع الفيديو وهم يحملون الرؤوس المقطوعة. وكأن تلك الجهات الدولية والأممية تكافئ النظام على هذه العملية الاستعراضية ذات الوظيفة السياسية الواضحة، وهي استدراج عروض مقدم إلى الغرب، والولايات المتحدة بخاصة، لقبول النظام شريكاً في «الحرب على الإرهاب» وفقاً لمفهوم يختزل الإرهاب إلى داعش ومنظمة القاعدة، ويختزل مكافحته بحرب إلغائية على المنظمات المصنفة إرهابية، لا تكترث بحياة السكان المحكومين في مناطق سيطرتها.
بهذا المعنى يصبح مفهوماً ألا يجد الكفاح البطولي لأهالي مدينة الشاعر الفيلسوف أبي العلاء في مواجهة إرهاب النصرة، من ينوه به. ذلك أن الوعي المتقدم لهؤلاء في تمييزهم بين دينهم المألوف والدين الجديد الذي يريد إرهابيون فرضه عليهم بالقوة، ورفضهم لهؤلاء المستعمرين الجدد ولعقيدتهم الشاذة، من شأنهما أن يشوشا على المفهوم الغربي المبسط للإرهاب وربطه بالإسلام والمسلمين بصورة مطلقة، ومن شأنهما أن يضعا الأمور في نصابها الصحيح بعيداً عن الاستثمار السياسي للظاهرة الإرهابية.
٭ كاتب سوري
بكر صدقي
صدق الكاتب ،،الشعب السوري بغالبيته مسلم ملتزم و لا يحتاج للنصرة كي تعلمه مبادئ الدين ،،