يقول علماء الدّلالة والتداوليّة المعاصرون، إنّنا حين نتحاور بكلامنا اليومي ننشئ الأكوان، وهذا رأي قاله الفلاسفة والبلاغيّون بعبارات مختلفة وبمقاربات متنوّعة.
يعني الكون في المعنى البسيط العالم الذي قد يشمل المجموعة البشرية الموزعة على الأركان الأربعة من الأرض، تاريخا وحضارة وتجارب بشرية. لكنّ للكون في كلامنا ههنا معنى مخصوصا، إذ يدلّ على الأشياء المعقولة أو المُدركة التي لها دلالات ظاهرة أو مبطّنة؛ وهذا الكونُ المُدرك يمكن أن يكون منقولا باللغة عبر الأقوال التي نتواصل بها يوميّا. وفي هذا السياق ينبغي التمييز بين الوقائع كما جدّت والأحداث كما جَرتْ وتلك الوقائع وهذه الأحداث كما تنقلها الأقوال. وبناء عليه يمكن الحديث عن واقعة واحدة وطرق في بنائها وإنشائها. ولنفترض مثلا أنّ سيّارة تمرّ في الطريق فسيقول من مرّت به السيارة (مرّت العربة) ويقول من لم تمُرَّ به السيّارة (السيارة مقبلة) فكلاهما بنى وضعية واحدة بشكلين يختلفان باختلاف موقعيهما فأنشآ كونين مختلفين.
«الفلسفة التحليلية» التي ظهرت أوّلا في بريطانيا في نهاية القرن 19، لها دور كبير في تدقيق كثير من المفاهيم التي باتت رائجة في ما يسمّى بالتداولية. فلقد درج الفلاسفة التحليليّون من أمثال غوتولب فريجة وبرتراند رسّل ولودفيغ فتغنشتيان، وغيرهم على التحليل المنطقي للغة واهتموا بالقضايا (أي بشيء من تقريب الجمل النحويّة) وما تثيره من مسائل تخصّ حَوْسَبَتَها أن تسند إليها قيمة من قيمتي الصدق (صادق أو كاذب) ودلالتها وإحالتها وعلاقتها بالوقائع وغيرها من المسائل.
غير أنّ ما يعنينا ههنا هو ما أفاد به جان لانغساو أوستين (1911-1960)- وهو فيلسوف بريطاني تأويلي- مبحث التداولية حين أرسى نظريّة «الأعمال اللغوية» على دراسة اللغة العادية (لا اللغة المثالية كما فعل ذلك كثير من التأويليين) في محاضرات نشرت بعد وفاته (1962) في كتاب عنوانه «كيف نصنع الأشياء بالكلمات».
يرى الفلاسفة التحليليون أنّ القضايا وخصوصا الأساسية (تسمّى الذريّة) تبني الوقائع الأساسيّة، ومن هذه القضايا التي تبني الوقائع يبنى الكون، فالكون حسب فتغنشتاين ليس إلا وقائع ذريّة معقّدة، واللغة هي ناقل وبانِ بناءً تطابقيّا للكون. لكنّ هذه الرؤية للأقوال ظلّ يحكمها في التوجه الفلسفي التحليلي الاشتغالُ على القضايا المنطقية السليمة، تلك التي يمكن أن تستجيب لما يسمّى بقيمة الصدق، والتي تجعل قضية ما صادقة أو كاذبة، بالنظر إلى علاقتها بحالة الأشياء في الكون. فقولنا (الأرض مربّعة) قول كاذب الآن وهنا، وقولنا (الشمس مشرقة) قضية تكون صادقة الآن وهنا وقد تكون كاذبة في غير الآن وغير هذا المكان، لذلك فإنّ الصدق والكذب مسألة متغيرة. وفي وجهة النظر التحليلية فإنّ الوظيفة الأساسيّة للكلام هي الوظيفة الوصفيّة وقد تكون للكلام وظيفة انفعالية، ولكنها ثانوية، فإن تقول لي: «عيناك كستنائيّتا اللون» هو قول وصفي مادام يقبل، إذا كانت عيناي لهما هذا اللون فعلا في الواقع، أن يكون صادقا ويكون كاذبا إن لم يطابق قولك ما عليه عيناي في الواقع. لكن أن تقول لي: «ما أجمل عينيك» فهذا يدخل في باب الانفعالات، ولذلك لا يقبل أن تسند إليه قيمة من قيمتي الصدق الحصريّتين صادق أو كاذب.
وفي مسار معكوس لهذا الخطّ من التفكير جاء أوستين لينقض كثيرا من كلام سابقيه وأهمّه ما سمّاه بـ»وَهْم الوصف» إذ رأى أنّ الوظيفة الغالبة على الكلام ليست هي الوصف أو التمثيليّة كما في رأيي فريجة ورسّل (ويعنيان بها أنّ مهمة المنطقي أن يسند إلى ملفوظ ما قيمة الحقيقية بأن يقول هي صادقة أو كاذبة بالنسبة إلى تمثيلها للواقع أو عدم تمثيلها له) بل إنّ الوظيفة الوصفيّة ليست إلاّ واحدة من الوظائف وليست المهيمنة على الكلام. ويضيف أنّ ثنائية خبر/ إنشاء التي قام عليها التفكير الكلاسيكي والتي بنيت بالأساس على قيمة الصدق، ليس لها ما يدعمها في كثير من الأقوال، التي تكون خبرا ولها مع ذلك قوّة إنشائيّة. مثال ذلك أنّ مقيم الصلاة في حضارتنا يقيمها بجملة خبرية (قد قامت الصلاة) وبقول البائع (بعتُك) للشاري يتمّ البيع، وكثير من هذا يتمّ به إنشاء العقود، وقديما سمّاها النحويّ رضي الدين الاسترابادي بالإنشاء الإيقاعي، لأنّ لها طابعَ توقيع العقود. ويدخل في هذا الضرب أيضا كلّ الوعود كقولنا (أعدك بأن أزورك) والأحكام كقول القاضي (حكمت المحكمة على فلان بعدم سماع الدعوى) والشروح والتوضيحات والسلوكيات، كالاعتذار والشكر والتهنئة وغيرها من الأعمال التي تكون ردّ فعل على أعمال الآخرين. هذه الأنواع يجمعها أوستين تحت ما يسمّيه بـ’»الإنجازيّات» وهي جميع الأقوال التي لها القدرة على التأثير في الكون وعلى تغييره ولكن لها القدرة قبل ذلك على بنائه.
إنّ اللغة بأسرها إنجازية حسب أوستين، ومن هنا كان للغة وبالتالي للكلام طبيعة إنشائية؛ فكلُّ قول يمكن أن ينشئ كونا ما. بهذا المعنى لم يعدْ الإنشاء أسيرا لمعناه البلاغي الأوّل من أنّه نقيض للخبر لا يقبل التصديق ولا التكذيب، بل يصبح الإنشاء في معنى اتخاذ الأقوال مطيّة لبناء وضعيات أو وقائع تمثّل كلّ وحدة منها بناءً للكون.
وبدلا من أن يؤسَّس الكلام على خبر وإنشاء أسسه أوستين على ثالوث من الأعمال اللغوية هي «عمل قول» و»عمل مُنجز بالقول» و»لازم عمل القول». أمّا عمل القول فهو أيُّ عمل ينجزه المتكلم حين ينطق بالكلام أو يكتبه، وهذا غير مهمّ في ذاته لأنّنا حين ننطق أو حين نكتب إنّما نفعل ذلك العمل القوليَّ لشيء خارج عنه، هو التعبير الذي يكون محوره العمل المنجز بالقول؛ وهذا العمل هو جملة الأقوال التي يتلفظ بها المتكلم لينشئ الكون، أي ليقرّر ويخبر ويمدح ويذمّ إلخ. هذا الضرب من الأعمال اللغوية هو المهمّ. وأخيرا فإنّ لازم العمل القول هو أثر قولك في متلقّيك، فإن تقول لمخاطبك (افتح الباب) ويفتحه فذلك هو لازم العمل بالقول، وهو غير مهمّ في ذاته أيضا لأنّه شيء من خارج العمل باللغة.
المهمّ في نظريّة الأعمال اللغوية التي أسسها أوستين وطوّرها من بعده الفيلسوف الأمريكي جان سورل، أنّ الكلام ليس نقيضا حادّا للأفعال، وأنّه باللغة نفعل كثيرا من الأشياء، فنحن نُبْرِمُ العقودَ ونجعل غيرنا فرحا أو حزينا عظيما أو حقيرا، ويجعلنا غيرنا كذلك؛ بالكلام نحكم الناسَ ونعلن الحروب ونوقفها بالهدنة، أو بإعلان السلام، وبالكلام نسيطر على الأذهان فقط لأنّنا ننشئ بالكلام الأكوان بالمعنى الأنطولوجي للكلمة. الكلام في وظيفة الوصف التي ركّز عليها الفلاسفة التحليليّون يأتي ليقرّر وضعيّات افتراضية فيُحَوْسِبَهَا بلعبة «قيمة الصدق»؛ لكنّه في نظرية الأعمال اللغوية يبني الكون ويستبقه لأنّه لا يخطّطه ولا يهدمه، بل يجعله قائما ولكنْ ليس من عَدَمٍ.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
توفيق قريرة
من أجل أهمية الكلام أن ترى عائلة بأكملها تعمل في الفلاحة والحياكة لفائدة فرد من العائلة يدرس في الفرع الزيتوني داخل البلاد ثم ينتقل بعدها إلى الجامع الأعظم في الحاضرة التونسية ثم يتخرج ويعمل ويتزوج وينجب أبناء من يكون قد وصل إلى مرحلة التبريز في التعليم دون أن يستفيد منه الطلاب لأن مجال عمله ليس التدريس إنما الكلام والحركة ضمن ما يضحك الخلق. بالعودة إلى أولئك الذين بذلوا من أجل تعليم فرد لهم أيضا أبناء ولكن هؤلاء ليست من اهتماماتهم الدراسة جراء تداعيات البذل والعطاء ومن حصل من أبنائهم العلم يعتبر قد نجا من الجهل حيث لم تتوفر له ما توفر لأبناء ذاك الفرد لأنه عاش على لقمةالعيش المغلي وما يتوفر من غابة النخيل.
الأخ توفيق،
في معرض الحديث عما يسمّى بـ«قيمة الصدق»، هناك بعض الخلط بين البيان المنطقي والبيان النفسي نتيجةً للوقوع في شَرَك ما يُسمى بـ«القياس النفسي» أو «السَّكْلَجِيَّة» psychologism بمفهوم الفيلسوف الهيغلي يوهان إدوارد إيردْمان. ذلك لأن البيان النفسي يقتضي الحديث عن قضايا مشروطة contingent، وقد تكون هذه القضايا صادقةً أو كاذبةً في الزمن ذاتهِ أو في زمنين مختلفين (كقولك في اللون «البحرُ أزرقُ»، فالقضية هنا صادقة وكاذبة في كل من الحالتين). على النقيض، فإن البيان المنطقي يستلزم الحديث عن قضايا ضرورية necessary، بمعنى أن هذه القضايا إما صادقةً بالضرورة وإما كاذبةً بالضرورة وفي أيِّ زمن من الأزمان (كقولك في الطعم «البحرُ أُجاجٌ» و«البحرُ عذبٌ»، فالقضية الأولى صادقةً بالضرورة و القضية الثانية كاذبةً بالضرورة)، إلى آخره.
***
بعض الملاحظات حول المصطلحات لتجنُّب سوء الفهم:
– «الدَّلالِيَّات» semantics (بدلا من «علم الدَّلالة» وأخواتها المنحوتة الكثيرة).
– «الخِطابِيَّات» pragmatics (بدلا من «التداولية» وأخواتها المنحوتة الكثيرة).
– «الأعمال الكلامية» speech acts (لتمييزها عن كل من «الأعمال اللغوية» language acts و«الأعمال اللسانية» linguistic acts).
(انظر في هذه الصحيفة: تعقيبي على مقال صبحي حديدي «فاصوليا أومبرتو إيكو»، 21 شباط 2016، الذي أعيد نشره تحت عنوان «اصطلاحات تستوجب الاتفاق»، 25 شباط 2016).