لم تمت الغزالة لكنها نائمة

حجم الخط
7

قالت والدة جوليو ريجيني معلقة على حادث اختطاف ابنها وقتله بوحشية في مصر: «قتلوه كما لو كان مصرياً».
تختصر هذه العبارة واقعنا العربي برمته، قتلوه كأنه مصري، ففي بلادنا لا حرمة للموت. نُقتل بالمئات والألوف كأن لا شيء. هذا اللاشيء الذي صار جثثاً وملايين من اللاجئين والمشردين، أخذنا إلى ما دون الحضيض، وأعطى المحتل الاسرائيلي ذريعة لايصال القتل إلى قعر بلا نهاية، عبر عملية قتل الموتى بعد موتهم، بحيث صارت جثث الشهداء المجمّدة في البرادات، وسيلة لاذلال اجساد الموتى، وقهر أهلهم. وهذه حكاية لو رويت ستجعل القارئ يتمنى لو كان أعمى كي لا يرى، أو كي يرى بعينين لا يملكها المبصرون.
في مسرحية لينا أبيض: «نوم الغزلان» (عُرضت الأسبوع الماضي على خشبة مسرح «أروين هول» في الجامعة اللبنانية – الأمريكية في بيروت) لا نحتاج لحرف التمني الشَرطي: «لو»، الذي استخدمته الأم الايطالية الثكلى، فنحن الضحايا بلا تورية. وحين أَستخدم ضميرالمتكلم فأنا لا أحيل إلى جمع وهمي مصنوع من متخيل آتٍ من الماضي، بل أريد الإشارة إلى أناي التي شعرتْ، في مناخات هذا العرض المسرحي المؤلمة، أن عيون الغزلان السورية تصنع مرايا لاحتمالات الحياة الطالعة من شقوق العيون نصف المغمضة في موتها الذي يشبه النوم. عرض يحيك خيوط الحاضر بالكلمات والأجساد جاعلاً منه تجربة شخصية جعلتني اتماهى مع الموتى والناجين، وأعيش في مهاجع سجن تدمر مع فرج بيرقدار وفي سراديب الغوطة الشرقية مع سميرة الخليل وياسين الحاج صالح، وأمضي في رحلة التيه المسيّجة بالأقفاص والأمواج والموت التي نسجتها لينا أبيض، وهي تروي لنا عطش الحياة إلى الحياة.
في البدء كان السجن، هكذا رسمت المسرحية حكاية غزلانها. وضعت الخشبة داخل مثلث مصنوع من ثلاثة سجون: سجن تدمر مع نصوص من كتاب الشاعر فرج بيرقدار: «خيانات اللغة والصمت»، وأقبية الغوطة الشرقية حيث تم اختطاف رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي من قبل جيش الاسلام، على شكل رسائل كتبها ياسين الحاج صالح إلى زوجته سميرة الخليل، وسجن التشرد واللجوء، حيث يتحول اللجوء الى أوروبا قفصاً مسيجاً بالأسلاك، وبحراً يفترس جثث الموتى، واللجوء إلى لبنان مصيدة للذل.
سجن يسيّج العرض بالاسلاك الشائكة، فتتحول الخشبة إلى شراك والحكايات إلى مصيدة، والبحر الأبيض إلى مقبرة، والأجساد إلى ظلال تتلاشى، كأنها خيالات ظل تطفو فوق عيوننا.
لا أدري كيف أصف جرأة لينا أبيض وهي تغامر بحمل الألم بغير كلمة جرأة القلب. الجهد السينوغرافي المشغول بعناية، والاضاءة الملونة بقمر أعمى، والقصص التي ترسم ملامح الناس كأفراد يحملون في معاناتهم حكاياتهم الشخصية، واللحظات الملحمية التي تجعل من ركوب مغامرة البحر سفراً في مجهول الموت، ونصا فرج بيرقدار وياسين الحاج صالح اللذان يبنيان الحكاية من فتات الصمت، كلها لا تكفي، وكانت في حاجة إلى كيمياء تعيد خلقها. هذه الكيمياء اسمها جرأة القلب التي صهرت هذه العناصر المختلفة وبنتها بصفتها حكاية حب يحتضن الوجع جاعلة من تجربة السوريات والسوريين، حكاية انسانية كبرى تختصر حكايات الشعوب المقهورة مع جلاديها.
في المناقشة التي أقيمت في المسرح يوم الجمعة 8 نيسان – ابريل طرحت المخرجة حيرتها لأن أغلبية الممثلات والممثلين لا يتكلمون اللهجة السورية، وقالت إن ما اعتبرته خللاً في البداية تحول الى ميزة. وهذا صحيح، لأن العمل يمكن أن يُقرأ كتحية تضامن وتماهٍ لبنانية مع الشعب السوري، كما يمكن أن يُقرأ كمحاولة للتفاعل مع الألم السوري بصفته ألم كل اللاجئين والمقهورين في عالمنا.
انقسمت خشبة المسرح إلى أربعة أزمنة: زمن تدمر، زمن الغوطة، زمن الحلم الثوري والذاكرة وزمن التيه والتشرد. بدت هذه الأزمنة وكأنها زمن واحد. فالسجون والأقبية شكلت خلفية الثورة من جهة وصعوباتها في مواجهة القمع والتفكك وهيمنة عناصر استبدادية تريد احلال عتمة الهوس الأصولي مكان عتمة الاستبداد، حتى وصلنا إلى المشهد المأسوي للجوء السوري الذي صار اليوم فضيحة اخلاقية في عالم تخلى عن القيم.
لن أقول ان المسرحية نجحت في استنباط جماليات الخراب، فالفن لا يصنع هذا النوع من الجماليات مهما كان الفنان عبقريا. الفن يصنع جماليات الحياة والحلم بها. الفن حين يروي الخراب فإنه يستنطق الروح الانساني الذي يستنهض الضحايا كي يكونوا شهوداً على الحرية المنتهكة.
وهذا ما اشارت إليه لحظة النهاية في المسرحية، حيث رأينا عشرات الأيدي تمسك بشقوق بوابات السجن ومراكب الموت لتغني.»جنة جنة جنة، جنة يا وطننا». هذا الجحيم هو الجنة التي سيصنعها الضحايا وهم يستعيدون حنجرة ابراهيم القاشوش وماء غياث مطر وبراءة حمزة الخطيب، رغم كل شيء.
كانت والدة الضحية الإيطالية على حق: قتلوه كما لو كان مصرياً»، لكنها نسيت أن القتيل لم يتخلّ عن صوته، وأن صوت الأغاني التي لونت مسرح المأساة، يشير إلى أن الغزالة لم تمت، لكنها نائمة.

الياس خوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    “قالت والدة جوليو ريجيني معلقة على حادث اختطاف ابنها وقتله بوحشية في مصر: «قتلوه كما لو كان مصرياً».” أهـ
    بماذا يعلق مؤيدي السيسي على هذا الكلام المهين ؟
    هل أصبح المواطن المصري رخيصا لهذا الحد ؟
    أين من خرجوا بيوم 30-6-2013 الأسود ؟
    أليسوا شركاء بقتل المصريين وبدم بارد ؟
    لا بارك الله بكل من آذى شعب مصر
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول منى*الجزائر*.:

    عندما وقعت تفجيرات باريس وبعدها بروكسل وقبلهما تفجيرات11سبتمبر في امريكا….كل الدنيا قامت ولم تقعد…. قرارات اممية..تحرك اساطيل في البحار …رفع حالات التأهب في البلاد الغربية وفي قواعدها العسكرية”هنا”…..ترسانة اعلامية تعمل ليل نهار على بلورة الرأي العام..دعاية …كذب…تلفيق تهم…كل مامن شأنه خدمت اجندات انتتقام “الأنا الغربية” المريضة بعنجهيتها وكبرها على كل مخالف لها…
    عكس مايحدث معنا في عالمنا العربي المنهار “او ماتبقى منه”.
    نحن دمائنا رخيصة بل لا تساوي شيئا…يقتل العرب بالمئات والآلاف بالقصف والبراميل المتفجرة..او تلتهمهم الحيتان في البحر او ديار الغربة.او يقتلون بالحصار والتجويع…على ايدي الأنظمة التي باركها الغرب .ولازالت الى اليوم تقف على استمرارها بأي شكل وبأي طريقة…
    هم أسسوا العقد الاجتماعي الذي يحصدون خيراته على بلادهم…أما نحن فأسسوا لنا عقدا بينهم وبين طواغيتنا ….لكتم انفاس الشعوب العربية…كي تنعم اسرائيل بالهناء والراحة…..
    لم نأخذ بزمام المبادرة وتأخرنا كثيييييييرا في التحرك والثورة..وهانحن الآن نحصد ثمن ذلك الخوف والتسويف ؛انهارا من دماء الاطفال والنساء……
    لنا الله…..
    على ذكر المسرح ودوره الخارق في تشكيل ذهنيات منفتحة متأملة فاعلة…اود ان أسأل هل يمكن متابعة بعض الاعمال المسرحية عبر شاشة التلفاز او الانترنت؟!..يعني هل يتم تسجيل هذه الاعمال المسرحية.؟!
    كم نحن بحاجة للتنفيس عن ارواحنا بأعمال فنية راقية…
    تحية لك من الأعماق كاتبنا الكبير الياس خوري..
    وتحية لكل إخوتي المعلقين…
    وتحية لقدسنا الغراء بيتنا الثاني…

    1. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

      “اود ان أسأل هل يمكن متابعة بعض الاعمال المسرحية عبر شاشة التلفاز او الانترنت؟” أهـ
      سؤال جيد أختي منى وحبذا لو أن هناك جواب

  3. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

    هذه الأنظمة وأمثالها أي التي تريد إحلال عتمة الهوس الأصولي مكان عتمة الاستبداد تريد أن تسلبنا حقنا في العيش الكريم يا الله أي زمن هذا الذي نعيش فيه؟ ما بعد الشدة إلا الفرج

  4. يقول منى*الجزائر*.:

    علينا بالعمل أخي أسامة كل من جهته …في محيطنا الاجتماعي اجتماعاتنا مع الاهل والاقارب والاصدقاء وزملاء العمل وو…..
    لن يدوم هذا الظلام اذا عقدنا العزم على مجابهته…الفن رسالة راااقية جدا لو نحسن توظيفها واستغلالها خاااصة السينما والمسرح..أؤمن جدا بمقولة*اعطني مسرحا اعطيك شعبا”…
    امسيتك سعيدة أخي اسامة….حاول انت تجد عملا راقيا هذه الامسية واستمتع به ربما صالون ادبي…او ماشابه…

    1. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

      مساك الله بالخير أختي منى للأسف أنا في ألمانيا ولدينا طفلة عمرها ثلاث سنوات ومنذ أن ولدت لم نستطيع زيارة السينما أو المسرح رغم أن هناك عوائق أخرى أيضا

  5. يقول منى*الجزائر*.:

    طهورا ان شاءالله…آسفة جدا….
    ربي يعينكم ويفرج عليكم ويشفيهالكم ويعافيها يارب…
    مرض الصغار يؤرق الوالدين….
    أحس بكم..لكم دعائي اخي اسامة…

إشترك في قائمتنا البريدية