بغداد ـ «القدس العربي»: دخلت أزمة تشكيل حكومة جديدة في العراق هذه الأيام منعطفا خطيرا فتح أمامه كل الاحتمالات، بعد إقالة رئيس البرلمان.
فمع إعلان أغلبية أعضاء مجلس النواب ما سموه بـ«الثورة البيضاء» والتمرد على هيمنة رؤساء الكتل السياسية على ملف العملية السياسية وتمسكهم بالحفاظ على الامتيازات، يكونون قد فتحوا صفحة جديدة غير مسبوقة في المشهد السياسي الذي تعود فيه العراقيون منذ 2003 على اعتبار النواب مجرد أدوات لتنفيذ توجيهات كتلها للتصويت بنعم أو بلا، على القوانين في البرلمان.
وسواء كانت الفعالية ثورة بيضاء أم تمردا أم سيناريو غامض متفقا عليه لتحقيق أهداف معينة، فالمؤكد أن قيام أغلب النواب برفض قائمة تشكيل الحكومة الجديدة التي قدمها قادة الكتل السياسية، والتي يفترض بها ان تكون الخطوة الأولى في إصلاحات حكومة حيدر العبادي، وإصرارهم على تمرير قائمة الوزراء التكنوقراط التي قدمها العبادي للبرلمان ورفضها قادة الكتل، ثم قيام النواب بإعلان الاعتصام داخل قبة البرلمان حتى تنفيذ مطالبهم بتمرير تشكيلة التكنوقراط أو التهديد باقالة الرئاسات الثلاث (الجمهورية والوزراء والنواب) وسط أجواء الفوضى، كل ذلك يبعث أملا بإمكانية كسر النواب لجدار الإملاءات والانقياد الأعمى التي تعود قادة الكتل فرضها على أعضاء مجلس النواب.
وقد أظهر تمرد النواب واعتصامهم وتهديدهم بسحب الثقة من الرئاسات الثلاث والبدء بإقالة رئيس البرلمان، أن تمسك قادة الكتل السياسية بفرض هيمنتهم على مسارات العملية السياسية منذ 2003 لم يعد مقبولا استمراره، ليس من قبل غالبية الشعب والمرجعية الدينية فقط بل ومن النواب أيضا، وذلك بسبب القناعة لدى الجميع بأن استمرار ذلك الحال من هيمنة قادة الكتل وما سببه من الانهيار الشامل لكل مناحي الحياة في العراق، سيجر البلاد إلى هاوية سحيقة تضيع معها وحدة وكيان الدولة والشعب إضافة إلى هدر ثرواته حاضرا ومستقبلا، عبر استمرار عملية الفشل والفساد في إدارة البلد.
ورغم فسحة الأمل في حدوث نقلة نوعية في المشهد السياسي، فإن العراقيين والمتابعين للشأن العراقي، الذين إكتووا بنار أساليب التلاعب واللف والدوران لساسة البلد طوال 13 عاما، لا يخفون مخاوفهم من أن يكون حراك النواب سيناريو لتمرير طبخة جديدة تهدف لإشغال الشعب عن المطالبة بالإصلاحات ولإحباط محاولات تشكيل وزارة جديدة تهتم بالإصلاح وتكون بعيدة عن تأثير الأحزاب، وتعود تلك المخاوف إلى أن أغلب النواب المتمردين ينطبق عليهم قول «الإخوة الأعداء» في تناقض توجهاتهم وأهدافهم، وبعضهم من النماذج التي لا يمكن أن تتوقع منهم موقفا وطنيا خالصا نظرا لسنوات من الانغماس في مشاريع الفساد والترويج لرموز الفشل في البلد وإثارة الفوضى، كما أن أكثر الداعين إلى التمرد هم نواب كتلة القانون التي يرأسها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي لا يخفي طموحه في العودة إلى منصبه السابق.
ورغم أن الكثير من النواب المتمردين وخاصة من التيار الصدري والكتلة الكردية وبعض القوى السنية، لديهم دوافعهم ومبرراتهم المشروعة وبعضهم لديه رغبة حقيقية في إصلاح الأوضاع من خلال اعلان التمرد على سلطة قادة الأحزاب والكتل، فإن الكثير منهم أيضا معروفون بأنهم ممن يجيدون ركوب الموجات ومن الذين ينحصر دورهم دائما في إداء دور «ترابل ميكر» أي خلق المشاكل للمنافسين الآخرين.
ولم تبتعد هذه التطورات عن تأثير العامل الخارجي الذي تعود العراقيون ان يجدوه في كل زاوية من زوايا العملية السياسية، حيث تواصلت الزيارات المكوكية لمسؤولين أجانب وخاصة الإيرانيين والأمريكان، إلى قادة الكتل السياسية والحكومة والبرلمان، بحجة الحرص على التوفيق بين الأطراف والمحافظة على وحدة العراق ومصلحته بينما تسعى تلك التحركات إلى ضمان استمرار تأثيرها على العملية السياسية والمحافظة على مصالح دولها. وقد اعترف نائب رئيس الجمهورية السابق إياد علاوي بزيارات وفود أمريكية وإيرانية له للضغط من أجل الاشتراك في حكومة العبادي المرتقبة.
وفي خضم هذه المعمعة والأزمات السياسية في المشهد العراقي، لا يمكن أن تغيب المخاوف من تأثير هذا الصراع السياسي على سير العمليات العسكرية في مواجهة القوات العراقية لتنظيم «الدولة». ورغم الدعوات بالنأي بالمؤسسة العسكرية عن المماحكات السياسية والتفرغ إلى معركتها المصيرية في ساحات المواجهات الممتدة على مساحات واسعة من البلد، فإن إنشغال الحكومة والبرلمان في تطورات الصراع السياسي واحتمال تغيير رؤوس المؤسسة العسكرية، سيترك بالتأكيد بصماته على الأداء وسير المعارك للمقاتلين في جبهات القتال ويمنح تنظيم «الدولة» زخما لرفع معنويات مقاتليه.
وفي ظل هذه الفوضى السياسية، فإن آفاق وتطورات التمرد النيابي وسط اصرار قادة الكتل على التمسك بامتيازاتهم، تبقى كل الاحتمالات واردة، فيما يتعلق باحتمال قيام أعضاء البرلمان بسحب الثقة من الرئاسات الثلاث، أو قيام الرئاسات بحل مجلس النواب، وبالتالي يتم ادخال البلد في أزمة فراغ دستوري يصعب تخمين نتائجه وتداعياته.
مصطفى العبيدي