التراث العربي بين شعرية المهادنة وشعرية المروق

لا يمكن للمبدع الأصيل أن يبدع بعيدا عن النهل من معين التراث، الذي يعتبر رافدا مهما في إضفاء نوع من البهاء الدلالي، والعمق لبنية النص الشعري، هذا الأخير لا يكتسب شروط الحياة إلا بالانفتاح على الموروث، كمرجع أساس، في الذهاب بعيدا بالنص إلى ارتياد مضايق الإبداع، ومغالق السؤال المفضي إلى البحث الأبدي عن مكامن الانتماء الهوياتي والوجودي، هذا الانتماء لا يتحقق إلا بالمعرفة الرصينة والعميقة بالتراث.
فالتراث يمثل الهوية الخاصة لأي مجتمع مهما تقدم أو تأخر، ويسهم في إبراز الخصوصيات التي تميزه عن غيره من الأمم، ويشكل المرآة التي تعكس حضارة أمة ما بتجلياتها المختلفة والمتنوعة؛ على اعتبار أن وجود الكائن البشري مرتهن بمدى القدرة على فهم وهضم وامتصاص هذا التراث؛ بحسب الرؤى المتحكمة في التفاعل معه، وزوايا نظر تمتلك رؤية واضحة وجلية.
وهو كذلك كل ما خلَّفه الأسلاف، كموروث مادي ومعنوي، يشحن طاقات الأخلاف ويزيدهم حضورا ووجودا بين المجتمعات الإنسانية؛ فبه تحقق الأمة كينونتها – بدون السقوط في الاجترار- بل على العكس ينبغي أن يكون دافعا ومحفزا على المغامرة، ومنارة تضيء عتمات الواقع، وتكشف عن الآتي بما يمثله من رغبة في الاستمرارية، إذا كان هذا حال الشعوب والأمم؛ فإن الشاعر، كفرد داخل المجتمع، له سلطة معنوية تكمن في كونه معبرا بتجربته عن هموم وانشغالات، أحلام وآمال هذا المجتمع، من المفروض عليه أن يتعامل مع التراث معاملة استثنائية وعقلانية تسهم في إحيائه حياة جديدة تتسم بالحركية والتجدد الدائمين، عبر توظيفه التوظيف الأمثل حتى يصبح شحنة إضافية لكل ما يبدع وزادا يتزود به.
ونبراسا يضيء الجوانب المظلمة فيه؛ والعمل على تجاوزها، لأن الإبداع الحي؛ هو الذي يستطيع التكيف مع الطوارئ والاهتزازات المفاجئة التي ترج الحقائق والمسلمات، وهذا من طبائع الكون المبني على التغير والتحول.
لقد شكل التراث، عبر تاريخ الوجود الإنساني على هذه البسيطة، الأثر الذي يُقِرُّ بعبوره؛ ويفصح عن مواقف المجتمعات وتصورها للحياة؛ ونظرتها للكون، أي يجسد هذا العبور ماديا ومعنويا، من خلال، المنتوج الفكري والثقافي؛ وكذا العادات والتقاليد والأعراف التي تعطي صورة جلية عن المجتمعات، وما خلفته من آثار حضارية تنطق بعبقريتها؛ بجمال رؤيتها للعالم، وبمدى استيعاب دورها في دورة كونية ميزتها التبدل، وهذا التراث هو الذي يجعل الأمم حية في الذاكرة الإنسانية؛ وذات استمرارية في تاريخ الوجود، وتُعبِّر بوساطته عن تجذرها الحضاري وكينونتها الثقافية والاجتماعية.
بنظرة متأنية للشعرية العربية سنقف على أنها مرت بتحولات عميقة شكلا ومضمونا، انسجاما مع ما يعرفه المجتمع من تغيرات على جميع الصعد، إذ اتسمت بمرحلتين مهمتين في تاريخ الشعر العربي، تتمثل الأولى في كون الشعراء تعاملوا مع التراث من وجهات نظر متعددة وتصورات مختلفة أغنته؛ وأسهمت في بلورته تبلورا جديرا بديمومة لانهائية، انطلاقا من الأطر المرجعية التي ينطلقون منها، حيث نجد شعراء حاولوا إحياءه حسب ذائقة معرفية وثقافية وشعرية ذات مسحة نمطية، إذ اعتبروه مقدسا ثابتا لا يقبل الحلحلة، ما انعكس على شعريتهم التي ظلت مرتبطة بنصية كلاسيكية اجترارية، ترى الشعر مجرد وزن وقافية، وفيها تغيب الذات المبدعة فاسحة المجال لذوات صوتها ضارب في قدامة شعرية ذات نسقية جامدة، ما أفضى إلى كتابة نصوص لا حياة فيها، نصوص عبارة عن جثث محنطة لا روح فيها ولا طعم، شعرية مقيمة في التقليد والمحاكاة حتى النخاع، ترسف في أغلال السير على هدي الأسلاف – وكأن هؤلاء الأسلاف لم يبدعوا تجربتهم المعبرة عن العصر الذي عاشوا فيه، وعايشوا تحولاته وإبدالاته – ما جعل شعريتها فاقدة لهويتها الإبداعية، وخارج منطق اللحظة الحضارية والتاريخية التي تنتمي إليها، فأصبح شعراء شعرية المهادنة سدنة للثابت، ومجترين لنص شعري لم يستطع الخروج من قوالب شعرية جاهزة؛ تقتل حرارة التجربة وعمقها، وهذا ما يمكن وصفه بشعرية النمط، وهي شعرية تعتمد على الأحادية الشكلية، والأحادية الدلالية؛ أي أن النص الشعري نص لا يقبل التعددية التأويلية، وتغدو فيه المعاني مجرد لوك للمعاني السالفة، ومن ثم ظلت رهينة محدوديتها، إنها شعرية تفتقد لمائية إبداعية، بقدر ما هي ضاربة في المحول اللغوي والشكلي والدلالي، وبعبارة أخرى شعرية متحجرة، لا تقترب من المناطق المجهولة، والتخوم القصية للذات والكون، وإنما ترتكن إلى ما هو قائم في الموروث بمختلف صوره وفي تجلياته المتنوعة، شعرية مهادنة عاجزة عن تحطيم ثبوتية المنجز الشعري، ومن سماتها أنها ذات ملامح غريبة عن الشرط التاريخي والحضاري الذي تنتمي إليه، أي أنها خارج سياق الإبداع المتغير والمتحول.
هذه الشعرية تعبر عن بنية تقليدية؛ لا ترى في النص الشعري سوى انعكاس لصورة القديم؛ وأن الصوت الشعري المهيمن هو صوت الشعراء العباسيين والأندلسيين، هؤلاء أبدعوا نصهم؛ وتركوه ليكون حافزا لسيرورة إنسانية ميزتها اللاثبات، وصيرورة التحول؛ وبالتالي يمكن نعتها بشعرية المهادنة، أي شعرية تقيم في القوالب الجامدة؛ وذات رؤية ضيقة للإبداع والعالم.
إنها شعرية انفعالية تُغَلِّبُ الجانب النقلي على الجانب الإبداعي، ومن تم يمكن نعتها بشعرية استنساخية مشوهة لكونها لا تنتمي للحاضر ولا للمستقبل، وإنما لشعرية ماضوية.
أما لغتها فهي لغة محنطة تنتسب إلى معجم شعري الركود سِمَتُهُ، والقدامة والجزالة والعتاقة عنوانا بارزا لها، إنها لغة تكبح جموح صوت الذات فيغدو مبحوحا في حنجرة لغة الحاضر. ومن شعراء هذه الشعرية سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم.
في المقابل، ونظرا للانعطافات الاجتماعية والسياسية والثقافية، برز شعراء المرحلة الثانية الذين كان هاجسهم الأساس الذهاب بالنص الشعري إلى مدى لامتناه، هو أفق الخلق والتجاوز، خلق قوالب فنية تستوعب تلك الإبدالات، وتكون قادرة على التعبيرعن لحظتها، مما جعلهم يختارون صف الخرق كمعيار لشعرية غايتها الإبحار في الذات ككينونة غامضة؛ والكون كإشكال لوجود هذه الذات فيه، شعرية تختار السياحة في هذه الأفضية التي هي في أمس الحاجة إلى الكشف والاكتشاف، شعرية تخوض غمار سباحة محفوفة بحالات المد والجزر التي يعرفها العالم والذات، مما يكون له تأثير عليها، ومن ثم تكون رهينة هذه التقلبات.
شعرية هاجسها الأول؛ هو هدم النمطية السائدة وتشييد شعرية متجددة؛ خارقة للمألوف والمعتاد، متجاوزة لما هو كائن في التجربة الشعرية التقليدية، غير مهادنة للثابت، بقدر ما تنحو منحى المغامرة، تعد الخرق مقياس الإبداعية والجدة، شعرية تقود اللغة إلى أن تصنع نصا شعريا ينضح بحياة التجربة، وأصالة الرؤى الضاربة في تربة الحلم، كمقوم من مقومات شعرية المروق، وقد استطاعت هذه الشعرية أن تؤثث المشهد الشعري العربي بتجارب كان لها الدور الفعال في فهم التراث وامتصاصه بطريقة متجددة، إذ فتحت حوارا معه يتسم بالجدل والجدال الفعال، والتعامل الإيجابي، مما كان له انعكاس مثمر على النص الشعري، الذي اغتنى بالقراءة المتجددة والمجددة لهذا التراث، نشير هنا إلى السياب ونازك الملائكة، صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل، أدونيس ويوسف الخال، خليل حاوي وعبد العزيزالمقالح، محمد الماغوط وأنسي الحاج وأحمد المجاطي ومحمد السرغيني وعبد الكريم الطبال، محمد بنيس وعبد الله راجع وغيرهم، هؤلاء اختاروا الهدم والمغامرة كموقف من شعرية متهالكة؛ تداعت أركانها بفعل عوامل انسداد الأفق الشعري عندها.
وما ينبغي الإشارة إليه هو أن شعراء شعرية المروق أو الممانعة تمكنوا من فض علاقة المهادنة، التي كانت قائمة في الشعرية النمطية أو المهادنة؛ عبر سلك مسالك جديدة متسمة بانعراجات وانعطافات في الشكل والدلالة، وكذلك على المستوى الرؤيوي للعملية الشعرية، فالرؤية للنص الشعري رؤية لا تبقى على حال واحدة، بل وفق ما يقع من حلاحل، سواء اجتماعية أو سياسية، أو معطيات حضارية؛ فطبيعة الإبداع، بصفة عامة، التحول وعدم الثبات، فهو ديناميكي متحرر من القيود، ومتفتح على إبدالية كتابية تقول كينونتها الشعرية؛ انطلاقا من الداخل على اعتبار أن «الإبداع طاقة كامنة في النص، تتجدد في كل مرحلة تاريخية، فنكشف، من خلالها، عمَّا لم يكن قد اكتشفه غيرنا من قبل»، فالنص الشعري، في هذه الشعرية، ينتمي إلى زمن متحول وفق واقع جديد دَيْدَنُهُ عدم المكوث على إيقاع واحد؛ بل هو ذو إيقاع متبدل ومنسجم مع روح اللحظة الوجودية، لا يقتفي أثر الإيقاعات السالفة، بقدر ما يبدع إيقاعه الخاص به، والمعبر عنه، والناطق بلسان حاله، «فالشعر تجربة قبل كل شيء، وهو المعاناة التي تصهر الأشياء، والمغامرة الجريئة التي لا تتوقف عند حد»، ومن ثم جاء تعامله مع التراث الشعري القائم، يتصف بعدم الارتكان إلى ما هو ثابت فيه، وإنما هاجسه الأول واللانهائي يتمثل في الثورة عليه، هذه الأخيرة لا يقصد بها القطيعة، وإنما التفاعل الإيجابي مع هذا التراث برؤية تجديدية تعي شرطها الحضاري والتاريخي، ووجودها الإبداعي، ذلك أن النص الشعري لم يعد نصا يلوك النص السابق لَوْكاً مجانيا اجتراريا؛ بل يخلق نصه من إِنِّيَتِهِ الذاتية، هكذا تحول التراث مع شعرية المروق إلى طاقة متجددة، وفاعلية إبداعية تثير دهشة جمالية لدى المتلقي، ومشحونا بإضافات جمالية وفنية؛ وامتدادات عميقة في النص الشعري، ومتجذرة في أعماقه؛ ما يؤدي إلى تثويره بلغة شعرية خارقة للمألوف، صانعة حياتها من ذاتها، مولِّدة ومتوالدة، لغة تستلهم من التراث ما يثريها، ويزيدها طراوة وعذوبة، وخالقة لمعانيها وأشكالها من كينونتها الإبداعية، لغة متوترة، نابضة بحرارة التجربة وعنفوانها، ملتحفة حِلِّيَتَهَا التي تخلقت من نسيج الخلق والإبداع؛ عكس لغة شعرية المهادنة التي يمكن عَدُّهَا لغة القواميس لا لغة الفوانيس؛ دلالاتها ذات بعد دائري ومكبلة بقيود النقل والاستنساخ، لغة باردة برودة التجربة.
إن شعرية المروق شعرية وظفت التراث توظيفا ينسجم مع التصور التجديدي الذي يؤطر الممارسة الإبداعية، ومع العصر الذي تعبر عنه تجارب الشعراء الذين تشبعوا بثقافة منفتحة على ثقافة الآخر، في سياق المثاقفة الجادة والمتفاعلة، فتم استثمار الرموز والأساطير والشخصيات والأحداث بأساليب كتابية ذات حمولات جديدة تتماشى مع الواقع وتحولاته.

شاعر مغربي

صالح لبريني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حي يقظان:

    تمامًا كما قلتُ في القسم الأخير من تعقيبي على مقال صبحي حديدي الأخير «شكسبير وسرڤانتيس: ملاكمة الجبابرة» في هذا العدد من الصحيفة، جدير بالذكر أن الفكرة الرئيسية التي تناولها الكتاب الأخير للناقد الفذ إدوارد سعيد «عن الأسلوب المتأخر: موسيقى وأدب عكس التيار» يمكن تلخيصها على النحو التالي:

    هناك فريقان متباينان من المبدعين في كل أشكال الإبداع الأدبي والفني: هناك، من جهةٍ، فريق أول «تحدَّى مداهمةَ الموت بالسير عكسَ التيار في المضمون والشكل»، فطمح من ثم إلى الرفض والممانعة والعناد وإلى «ألاَّ يكون قابلاً لأن يصالح الواقع»، إلى آخره من هذه العبارات. وهناك، من جهة أخرى، فريق ثانٍ استسلم لمداهمة الموت بالسير مع التيار في المضمون والشكل، فلجأ من ثم إلى القبول والموافقة والرضوخ وإلى أن يكون قابلاً لأن يصالح هذا الواقع.

    باختصار شديد، فإن شعراء «محلِّيين» من أمثال الغائب محمد الماغوط إنما يمثِّلون الاتجاه الأول، أي الاتجاه التقدًّمي، بكل امتياز، في حين أن شعراء «كونيين» من أمثال أدونيس فلا يمثِّلون سوى الاتجاه الثاني، أي الاتجاه الرجعي، بكل امتياز كذلك.

إشترك في قائمتنا البريدية