الناصرة – «القدس العربي»: رغم أنه ليس في عز الشباب لم يتردد الكاتب الفلسطيني خالد عيسى اللاجئ في السويد من زيارة كل ما تحتويه فلسطين من مدن وأرياف وبحر وبحيرة، متنقلا بينها بشهية مفتوحة على المزيد من عناقات الوطن الغالي البعيد القريب. بعد عناق ساخن طال شهرا كاملا غادر خالد حضن فلسطين ووجد نفسه وجها لوجه أمام تمثال بن غوريون في مطار اللد فحاول إطفاء انفعالاته الباطنية بالكلمات التي نوردها في نهاية هذا الكلام.
حينما استقرت المركبة في الساحة المجاورة لعين بلدته الفلسطينية، الشجرة او كما يرددها أهلها «الشجرة» سارع خالد لمغادرتها وأخذ يتجول تارة نحو الغرب وتارة نحو الجنوب، مشدوها متأملا كل ما تبدى أمام ناظريه وكأنه طير قلق على غصن تغيرت ملامحه. طيلة عقود انتظر الكاتب الصحافي خالد عيسى (60 عاما) اللاجئ الفلسطيني في السويد الفرصة لزيارة موطن الآباء في قرية الشجرة المدمرة في قضاء طبريا.
بفضل جوازات السفر السويدية حظي الطير العائد لشجرته بأن يصطحب معه زوجته، وابنتيه شيماء وميساء وأسرتيهما وبعد جولة في ربوع بلدته استراح العائدون في أفياء شجرة سدر وارفة قبالة العين التاريخية. كان خالد يحتاج لهذه الاستراحة بعد جولة ميدانية حث فيها خطاه بين الأشواك وكروم الزيتون واللوز والتين والصبار الشاهدة على هوية المكان. وبعد لقاء اختلط فيه الفرح بالحزن جمعه للمرة الأولى بعمته أم خالد المقيمة في بلدة كفركنا المجاورة بعدما فرقت بينهما النكبة. على مسامع ثلاثة أجيال من أبنائها ممن أبعدتهم إسرائيل لجوار القطب الشمالي تولى خالد ابنها مهمة تقديم الشروحات عن جغرافية وتاريخ الشجرة التي ولد فيها الرسام الراحل ناجي العلي واستشهد على ترابها الشاعر عبد الرحيم محمود دفاعا عنها عام 48.
قصص العين
وانضم أبو ناصر(77 عاما) من الشجرة التي ولد فيها ويقيم مهجرا في بلدة كفركنا المجاورة وشارك في استعادة رواية المكان. تلقفها العائدون بأجيالهم الثلاثة بشغف وتوقف عند «قصص العين.» وفي العين التي ينزل لها بـ 46 درجة اعتاد الأهالي انتشال المياه منها بدولاب خشبي بمساعدة كامل وسالم وهما كفيفان تم توكيلهما بهذه المهمة طيلة سنوات لأنهما لا يقويان على القيام بعمل آخر.
وتابع متوددا «وربما رغب أهالي السجرة بأن تبقى النساء الملايات الواردات على العين بدون نظرات رجولية تتعقبهن لكن السجرة لم تتميز بكثرة العميان فيها بل بذكاء أهلها وتعلمهم».
ويصف خالد عيسى الذي عمل في الكتابة الصحافية ولد في سوريا واستقر ببيروت ومنها اضطر بعد الاجتياح للانتقال لقبرص ومنها للسويد موطنه الجديد، زيارته اليوم للشجرة بالموجعة التي لا شفاء منها إلا بتحقيق حلمه بالإقامة فيها.
الإنسان والمكان
ويعلل مشاعره بالقول لـ «القدس العربي» وهو يجمع نبات الزعتر بيده «أنت تزور أنقاضك وتقف على عظام جدك. فلسطين بالنسبة لي ولكل المولودين خارجها رواية شفوية واليوم تنبهت أنها غير مطابقة للواقع بل لم أجدها لأنها بلا منازل ودون أهلها وحكاياتهم . «ويضيف أنه لم يجد سوى عين ماء وبرية، مؤكدا على حياة البلاد بسكانها وأنه يشعر كأن نصفه الأول اكتمل مع الثاني.
واستغرق العائدون وقتا طويلا حتى عثروا عن مقبرة الشجرة فتلوا الفاتحة على أرواح أقربائهم وملامح حزينة بدت عليه هو وزوجته أم شيماء. لكن العائدين للوطن لساعة ممن تجاذبتهم مشاعر الفرح والحزن صمموا على الاحتفاظ بالأمل فكانوا يتسابقون بهمة وحماس للمساهمة في غرس شجرة توت بأرض والده علها تكون «توتة الدار» ثانية لتكبر في انتظار أهالي القرية والاستظلال بأفيائها يوما.
ودون أن تسمع والدها عبرت ابنته الوسطى ميسا 33) عاما) المولودة بالسويد عن شعور مشابه، وقالت إنها كانت متشوقة جدا لهذه الزيارة فوجدت طبيعة خلابة حزينة يلفها الهجران والنسيان «جسدا بلا روح». وتضيف «الزيارة الأولى للوطن شوشتني فتارة أشعر أني بنت البلد وتارة كسائحة وغريبة لكن انفعال والدي بها يربطني بالمكان . «بيد أن شقيقتها الكبرى شيماء(39 عاما) بدت أكثر انفعالا بالزيارة وتقول إن كثرة الروايات التي سمعتها من والدتها وخالاتها في بيروت وحمص عن الشجرة جعلها أقرب لروحها.
العلت والخبيزة
شيماء المولودة في بيروت ودرست في بريطانيا التاريخ والتراث تقول إنها لم تشعر غريبة هنا بل شعرت بأنها في وطنها وقد أفرحها سماع اللهجة الفلسطينية والتعرف على أشجار الخروب ونبات العلت والخبيزة « التي تحتاج هي الأخرى لوطن كي تعيش، ففي السويد مكان إقامتها لا تنبت».
وخلال الحديث معها مدت سارة(5 أعوام) ابنة ميساء يدها للصبار فجرح إصبعها فهي لا تعرفه بغربتها بالسويد لكنها تناست أوجاعها باللهو وكتابة اسم الشجرة بالحجارة الصغيرة والبحث عن بعضها للاحتفاظ بها للذكرى ولخالتها وفاء في دبي.
أما ماريا(10 أعوام) ابنة شيماء فسألت عن المذاق المر لشجرة اللوز التي قطفت بعض ثمارها فأجابتها قريبتها الحاجة فريدة عايد(80 عاما) المهجرة من الشجرة والمقيمة في عين ماهل المجاورة إن ثمر اللوز سيصبح حلوا بعد عودتكم للدار»
وتتحدث ماريا باللهجة الفلسطينية وتقول إنها تتعلم بالسويدية لكنها تتعلم العربية والقرآن في الجامعة وإن معلوماتها عن الشجرة من والديها وعن الخيار بين السويد وفلسطين تقول والدتها «من جهتي كنت سأبقى منذ اليوم لكن أولادي اعتادوا الحياة هناك».
شكرا فلسطين
بالأمس ودع خالد عيسى فلسطين والدمع يغالبه فيما كانت عاصفة من المشاعر المختلطة تهب داخله بصمت. قبيل أن يعتلي سلم الطائرة لغربته البعيدة في السويد كتب بدم قلبه على صفحته: «شكرا لقلب بلادي الأخضر الذي ودعني في مطار اللد وهو يحدّق مقطوع الأنفاس بتمثال رأس بن غوريون المقطوع على مدخل المطار ، ويحاول في هذا «النصب التذكاري تذكّر اكبر عملية نصب حدثت في التاريخ، حين يقف فلسطيني من الجليل أمام ضابط جوازات أثيوبي من يهود الفلاشا يقلّب في جواز سفري السويدي ويبحث عن دم ضحيته في أوراقه، تحت بصر بن غوريون مؤسس الدولة التي سلبت ونهبت اللد من بلادها وطارت في مطارها الذي علّق عليه اسمه.
خالد الذي لم تبق بقعة في فلسطين إلا وزارها في الأسابيع الأربعة الأخيرة قال: «شكرا لبلادي التي كانت تقود سيارتها على «اتوستراد» رابين السريع بين الناصرة ومطار اللد، وتتوقف في المثلث لتمسح دموعي في هذا الوداع الصعب في طيبة بني صعب» وتلوّح لغربتي بباقة زعتر في باقة الغربية وتجلو صفاء روحي في جلجولية من استفزاز كفار سابا وتبتهل لعودتي من جديد مآذن ام الفحم. شكرا لفلسطين التي رافقت قلبي شهرا كاملا وهي تصحو كل صباح تعد لي القهوة بعبق الهال وتنقش صورتي في منقوشة زعتر بمطعم خميس ابو العافية في يافا، وتنفخ صدرها مزهوة بزهوي بها في قرص فلافل في مطعم سعيد في عكا، وتداوي غربتي المرّة بقطعة كنافة في حلويات المهدي في الناصرة، وتجول بي في الجليل وتعزمني على طبخة عكوب في كفر كنا وتغمس قلبي بزيت زيتون عين ماهل في أكلة مسخن في سخنين، وتكرم عودتي في مجد الكروم، وتتركني أطل على بهاء حيفا من فوق حديقة البهائيين، وتشفي حرقتي ببوظة شفا عمرو ، وتراقب حيرتي وهي تمشي على بحيرة طبريا في معجزة العائد. وشكرا لمليون ونصف فلسطيني في فلسطين الأم، رافقوا قلبي في بلادي وقدموا لي الحب الفلسطيني بعبق النعنع
ولم ينس خالد الشطر الآخر من الوطن المحتل عام 1967 فقال في انطباعاته الساخنة:» شكرا لرام الله التي شاركتني حلمها بدولة مستقلة تطل على بلادها على ارتفاع 880 متر فوق جبال القدس، ولا تصل اليها إلا بتصريح من عدوها، وتشرب قهوتها في مقهى رام الله وتبحث عن بلادها في شارع ركب بين حاجز قلنديا ومستوطنة، شكرا لزملاء الحلم الفلسطيني الذين يحاولون وطنا، عملنا معا من أجله، من بيروت، قبرص إلى تونس».
كيف لا يتذكر زهرة المدائن فيجعلها مسك الختام فيقول: «شكرا لكعك القدس أمام مخبز المصرارة اهرهر عنه السمسم كما أسوار القدس تهرهر عنها الغزاة منذ أن بناها جدها الكنعاني وأسماها «يبوس» وأعود اليها لكي أبوس قرص فلافل في باب العامود.
شكرا فلسطين الواحدة الموحدة التي جعلتني لأول مرة في حياتي من فلسطيني سوري إلى «فلسطيني فلسطيني» .. وتتركني لأصحو هذا الصباح في غربتي الاسكندنافية وأنا لم أشبع منها بعد لأقول لها: جوعان أنا يا فلسطين».
وديع عواودة
أخي خالد لقد قرأت هذا المقال واكتب لك هذه الكلمات وعيوني تذرف الدموع لأنك وضعتني في صورة عشق الوطن والشوق إليه رغم إنني فلسطيني والحمد لله أقيم في غزة ورفضت الهجرة لإحدى دول أمريكا الشمالية لأنني أدرك أن لا مكان في العالم يعادل الوطن… إنها يا أخي خالد مؤامرة ضد فلسطين وشعب فلسطين والجميع في الداخل والخارج يعاني ويدفع ثمن تلك المؤامرة ولكن ستعود فلسطين ولو بعد حين طالما أن هنالك أناس أمثالك وأمثالك أفراد أسرتك الكرام الذين رغم بعدهم عن فلسطين فلا زالت فلسطين في عقولهم ووجدانهم. أحيك وأشكرك على تكبدك المعاناة لكي تعود كزائر لأرضك وأرض أجدادك وهذا لا شك أنه أمر يسبب أعلى درجات القلق لدى الصهيوني المحتل الذي كان يظن أن بضع سنين كافية لكي ينسى أبناء فلسطين فلسطينهم لكنه أي المحتل اكتشف عكس ذلك وسيظل الأمل يحذونا جميعاً بعودة الحق لإصحابه ….فما ضاع حق ورائه مطالب.
فلسطين. سنعود مهما طال الزمن
ذرفت دمعا من عيوني عند قرائتي المقال لانه يمثلني ، فلسطيني أمريكي ، زياراتي السنويه لفلسطين منذ عام 1967 مستمره وستبقى لغايه الممات . لكن الفرق انني اعترف بضعفي وضعف ارادتي ، متشائم لا أرى أي نور للنفق أو نهايه عندما أرى الواقع اليوم وما يجري في فلسطين وجوارها .