كنت أنوي الاكتفاء بفقرة عن أزمة جزيرتي تيران وصنافير في مقدمة موضوع السبت الماضي، بما لا يؤثر على تناول ما يرد عن فكرة «الوطن العربي الكبير» أو «الشرق العربي الجديد»، التي ما زالت مثيرة لجدل واسع.. وقد اكتست حيويتها من نوعية المهتمين بها؛ بصرف النظر عما بينهم من اتفاق أو خلاف.. وهناك من قال لي إما أن يتم تناول الأزمة بوجهة نظر كاملة أو لا.. ولم يطل الوقت وجاءت التداعيات لتكشف عن تعقيدات لم تكن بنفس الوضوح في بدايتها.. واقتضى هذا أن أتوجه إلى المهندس عزت هلال واستئذانه في تأجيل عرض رؤيته عن الفكرة محل الجدل والاهتمام، وكان مقررا تناولها في هذا العدد.
لن تمس هذه السطور الشأن الفني ولن تقترب من الحقوق التاريخية والأوضاع القانونية حول ملكية هاتين الجزيرتين.. ولن تتعرض لسجالات نشرتها وبثتها أجهزة صحافة وإعلام؛ مسموعة ومكتوبة ومرئية والكترونية.. وقد تمس حالة القلق والصدمة التي ترتبت على اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين البلدين الشقيقين؛ مصر والمملكة السعودية.. وإذا كان القلق مشروعا فإن الصدمة كانت شديدة؛ أفقدت كثيرين توازنهم وأتزانهم.. ولم تأت من فراغ.. وقد يكشف البحث في العمق ما غاص وغرق في قاع المشهد المعلن والمعروف.
في القاع تَجَذَّرت «الإعاقة السياسية» وغاب الرشد الاجتماعي، وذلك منذ ما بعد الحصول على التفويض الذي طلبه الرئيس السيسي من الشعب.. وبعد نجاحه في انتخابات الرئاسة،.. وحاز شعبية تعرضت لاختبارات مبكرة بدأت بسوء التعامل مع تمويل الشعب لمشروع ازدواح قناة السويس.. وقد فوجئ السيسي نفسه بالمال المتدفق ليتجاوز ما طلبه، وكان متوقعا أن يستغرق عدة شهور.. واختزل الشعب المدة في ثمانية أيام.. ومن الممكن التأريخ لبدايات الإعاقة السياسية وغياب الرشد الاجتماعي بخلل التصرف السليم في هذه الأموال التي تدفقت على غير توقع.. وحملت رسالة واضحة تقول للرئيس: «عليك بالاعتماد على الشعب ولا تحمل هَمّا”.. لكن الرسالة لم تصل بعد!!.
وبدلا من تقدير الموقف العظيم للشعب، الذي كفى الرئيس هوان السؤال وأعفاه من حرج مد اليد وطلب القروض والعودة للمصرف الدولي للإنشاء والتعمير؛ بدلا من ذلك تصور المعاقون ومن فقدوا الرشد أن الشعب يمكن استغفاله والضحك عليه.. وهو ما لم يحدث في أحلك الظروف.. ففي الوقت الذي انتظر فيه موشيه ديان «صقر»الدولة الصهيونية الدامي.. وفي معيته أكثر نساء الحركة الصهيونية بأسا في التاريخ الحديث؛ غولدا مائير.. في الوقت الذي انتظرا فيه «مكالمة استسلام»من قصر الرئاسة في القاهرة.. كان الشعب أسرع وأسبق في الرد.. بطوفان غير مسبوق.. تحدى ذلك الصلف العنصري.. وردد في صوت واحد كلمة كانت أبلغ من أي قول «حنحارب.. حنحارب.. حنحارب»؛ أي سيحاربون حتى لو باعوا ما يسترهم، ووفروا من قوت أولادهم وحليب أطفالهم!.
ما هي إلا أيام وكانت معركة «رأس العش» في وقت كان الشعب على ثقة في قدرته وفي عزم أمته على الوقوف مرة ثانية.. وكان مسئولوه يجيدون فك رموز وشفرات مثل هذه الرسائل. وذهبت الرسالة هذه المرة ولم تجد من يعبأ بها، وهناك من أساء تفسير التفويض الذي حصل عليه الرئيس، وبدل من أن يجعله ميثاقا وعهدا وأساسا للحكم؛ جعله صكا للملكية تم بمقتضاه التصرف في الأرض والماء والهواء والبشر، وعليه مُنع الشعب من امتلاك المجرى الملاحي الجديد لقناة السويس، على من أنه الممول.. وكانت مثل هذه الملكية بطريق الأسهم تضفي عليه المشروع عمقا وطنيا كان الناس في أمس الحاجة إليه، وهم يتصدون لزحف الاحتكارات والمغامرين الأجانب.. وعادت الذاكرة الوطنية والتاريخية لتحكي للأجيال ملحمة بناء السد العالي، وتحريض وضغط واشنطن على «المصرف الدولي للإنشاء والتعمير»، فسحب تمويل المشروع.. وكان قد أُعتُبر وقتها مشروع القرن العشرين.. وتحول كرم الشعب وجوده إلى شهادات استثمار، كالتي تبيعها المصارف ومكاتب البريد المصرية.. وبدا المشروع الجديد بلا صاحب؛ ينتظر مغامرين وأباطرة مال حجزوا مقاعدهم في قطار الخصخصة المقبل قريبا ليكسح في طريقه ما تبقى من أصول وثروة عامة.. وأصبح ذلك التفويض أساسا كي «لا يعلو صوت فوق صوت المال».
والذاكرة الوطنية والتاريخية في مصر ليست مثقوبة كما يدعي رموز الإعاقة الثقافية.. وتكرارهم الدائم لما جاء في رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ بأن «آفة حارتنا النسيان”.. وقد أثبتت ذاكرة الشعب أنها عصية على الخرف أو النسيان.. ولها لحظات تجلي لا يعرفها «المتمصرون» ولا «المستعربون»؛ هذا ما علمته لهم الترجمات المغرضة!!.
وأزمة الجزيرتين كشفها حديث الرئيس السيسي، الذي دافع فيه عن اتفاق تعيين الحدود البحرية في خليج العقبة، وقال فيه: أن ما قام به «لم يخرج عن (تنفيذ) قرار جمهوري صادر من 26 سنة» أي منذ عام 1990.. «وأودع لدى الأمم المتحدة ردا على مطالبات من السعودية».. وسواء كان يقصد أو لا يقصد.. فقد أحيا بذلك قرارا جمهوريا لم يجرؤ من أصدره على تنفيذه، ثم أتى هو فنفذه!!. بجانب ما قام به من فصل بين ما أسماه في كلمته «سياق الدولة» وما أطلق عليه «سياق الأفراد».. وكالعادة تم وضع السياقين في تضاد وتناقض، وهذا أدى بنا إلى محاولة التعرف على ما يعنيه الرئيس بـ»سياق الدولة» فوجدناه يعني:
الأرشيف «السري» لوزارة الخارجية..
الأرشيف «السري» لوزارة الدفاع..
الأرشيف «السري» للمخابرات العامة..
ولا بأس من وجود هذه المحفوظات السرية رهن المشورة الفنية والمهنية.. والقرار في النهاية قرار سلطة سياسية مسؤولة عن الدراسة والبحث والتقدير والمواءمة والترجيح وتحديد التوقيت المناسب والتحسب للنتائج المتوقعة والاستعداد لما يمكن أن يترتب على التنفيذ من آثار جانبية.. وهي في النهاية سلطة ليست مطلقة.. هناك سلطات أخرى تتوازن وتتوازى معها؛ قانونية واستراتيجية واقتصادية ومالية وتعبوية وإعلامية.. ومعها سلطة قضائية يمثلها المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية العليا، ومجلس الدولة، ومحكمة النقض.. وتوازيها سلطة مجلس النواب المنتخب؛ وله تجربة يجب وضعها في الحساب وتعود لكثرة عدد أعضائه المستقلين عن الأحزاب والأجهزة والدوائر الحكومية والرسمية بعيدا عن أباطرة المال وشبهة التمويل الأجنبي.. ونجحوا بجهودهم الذاتية.. ففي أيامه الأولى رفض «قانون الخدمة المدنية»، وغضبت الرئاسة، وقد يتكرر غضبها إذا ما تكرر الرفض؛ بعد أن صار الاتفاق عنوانا لأزمة مستفحلة، وإذا لم يتكرر الرفض فقد يحال الاتفاق إلى الاستفتاء العام..
غياب الرشد كان وراء إبلاغ واشنطن وتل أبيب بالاتفاق قبل معِرفة المصريين والسعوديين به.. ومكن الدهاء الأثيوبي من الحصول على خطاب نوايا من الحكومة المصرية منح أديس أبابا رخصة يكتمل بها بناء سد النهضة.. وأفاد ولي ولي العهد السعودي، وتمكن من تسويق الجزيرتين شعبيا، وصنع منه أهم «صقور»المملكة السعودية، فتفوق بذلك على الأمير بندر بن سلطان، الذي حرض على غزو العراق وعلى «عسكرة المعارضة» السورية.. وانتصر ولي ولي العهد السعودي على الدولة المصرية المتهافتة على طلب المال؛ فعوض إخفاقات حملته في اليمن(!!).
٭ كاتب من مصر يقيم في لندن
محمد عبد الحكم دياب