الزيت المعصور

حجم الخط
0

قصد المعصرة التي تقع حذو المدينة كي ينال قليلا من زيت الزيتون اعترضته لافتة غريبة (لا يجوز المنطقة إلا الأحرار). تأمل هذه اللافتة طويلا ملتفتا تارة إلى اليمين وتارة نحو الشمال ثم أخذ يفكّر وقد علته دهشة واستغراب ‘هل ما زال الأحرار في هذا الزمان؟’، ‘إن الحر قد فقد تحت أقدام الكوارث والرزايا’.
على حين غرة جاز المنطقة فهو لا يحمل وثيقة تدل عليه، لكنه ثابت على نهجه هو يريد زيتا فقط الزيت هو مبتغاه يريده زيتا حرا، دخل المعصرة بقوة ورباطة جأش، لاحظ العمّال فلم يعترضوا له بسوء، لاحظ صاحب المعصرة نظر إليه شزرا تخيلها نظرة اشمئزاز أو نظرة اندهاش، لكنه واصل الطريق فرأى الآلة تطحن الزيتون تضغط عليه بشدة ‘يا له من زيتون لم أر مثله في حياتي’.
لم يحمل وثيقة تثبت امتلاكه لشهادة العبور فهل يحرم من ؟ تسمّر في مكانه على مقربة منه يوجد ذلك الزيت المشعّ كخيوط الشمس الذهبية وفي قفاه توجد اللافتة التي لا يملك مبصرها إلا نقدا لها هل يحرم حقا من هذا الخير؟! ‘أأقدم على فعلتي؟’. تساءل ونار التردد تلفحه، هي نار تكوي المحتاج فتزيده لهفة وتزرع في فؤاده نار الشره. التفت يمنة ثم يسرة وجذب كأسا من الزيت رويّا وشرب منه شرابا هنيئا وكأنه يتذوّقه لأول مرة: ‘يا له من زيت يدهشني فيجعلني أطير ثملا فوق تضاريس الدنيا ومروج الكون’.
أكيد أنه غافل عن مصير مختلس الزيت كلمة كبيرة تحمل سرّا مجهولا ومصيرا مدهشا فلقد رمقه صاحب المعصرة هذه المرة وهو يشرب الزيت الحرّ على غفلة منه فاشتدّ غضبه واحمرّت أوداجه وأراد الانتقام. كان عريض الكتفين ذو بأس شديد وقوّة خارقة، لقد كان متجبّرا بأتمّ معنى الكلمة وموجة الغضب هذه من العسير أن تهدأ دون دفع الثمن فأشار إلى عمّاله بغلق الأبواب الثلاثة: باب المعصرة الرئيسي والباب الخلفي أين تتجمّع العربات وباب الآلات.
أين الوثيقة؟
سرت رعدة كادت تعصف بجسمه الهزيل فاضطرّ إلى الكذب كذبة صفراء.
وا حسرتاه! لقد نسيتها!
نسيتها أن تدّعي نسياها؟ اكشف المستور، فوالله لن أرحم كل كذّاب أفّاك.
لم يخطر بباله أن الوضع صار مأزوما وأن الانفلات من الحرج سيكون مظلما بل ميؤوسا منه. عدة أسئلة تخامر ذهنه، لكنه عجز عن الهرب وبلع لسانه في حلقه… وصار التلعثم ميدانه.
سا..محني،…سا…محـ…ني!
نظرات صاحب المعصرة تضغط على أنفاسه تريد قتله، تريد طهيه طعاما شهيّا لأفراد أسرته ولِمَ لا أن يتذوّق الناس زيت المعصرة الجديد.
حاول الفرار كآخر حلّ بيد أنه تيبّس في مكانه، واستسلم للمصير المحتوم ‘آه ما أغباني أنا لست حرّا إنّي أعيش عيش الهوامّ والحشرات اللعينة…’.
تساءل ‘ما الذي أفعله يا ترى! سلب الناس كرامتي، مات ظلّي، وبقيت أدعو دعاء بلا جواب أنادي في القفار ولا شربة ماء تعينني على استرجاع معنى الحياة. أفلا أموت بجرأة وشرف وأشرب الماء أم استسلم بكل جبن وانهزام لنظرات هذا الرجل العنيد؟!’.
في عزّ الحرج طالت يداه إلى الكأس واحتسى آخر قطرة عنوان الجرأة وعدم الرهبة. هو يريد زيتا حرّا، وهو في نفس الحين يشرب ماء عذبا يطفئ نار السعار سعار صاحب المعصرة. تحرّك بُعيد خطوة فخطوتين وأراد الفرار ‘إمّا أن أموت أنا وإمّا أن ينتحر ظلّي!؟’.
أراد الحراك فأمسك به العاملان وبضغطة قوية رماه صاحب المعصرة تحت عجلات وسكاكين الآلة فدهسته، فاختلط اللون الأحمر القاني باللون الأصفر الذهبي. هكذا شرب بحر الزيت وغيره تلذّذ بلون الدم فصار برتقالي اللون. وقال كلمته الأخيرة مع ضحكات صاحب المعصرة المزعزعة ‘أنا حرّ’.
مالك بوديّة المرسى تونس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية