مَكبّة الكتب

ربّما المكتبة أكثر ما توقّع الأصدقاء الذين زاروني في القامشلي للمرة الأولى، وأرخوا رحالهم في منزلي الكبير نسبة للمدن بحديقته وشجرة الكرمنتينا ودالية العنب وشجيرة الدفلى أن يَروه، وليس التجاور بين أشجار من بيئات مختلفة.
كانَ يعطي معنىً آخرَ عن الجيرة التي وسَمت المدينة وريفها بكلِّ ناسها الذين توزعوا على قوميات وإثنيات وأديان وقبائل وأحزاب، فالرجل الذي عُرِف عنهُ اهتمامهُ بالكتابة في تلك الأطراف هو أيضا ابنٌ لمنطقة خصبة في إنتاج أسماء لها صيتها وعلاقتها مع القراءة، منتظمة وأصيلة، ذلكَ أنّ طرفاً يسارياً وآخر قومياً توزعا رغبةَ تقديم ثقافة معينة سيكتب لها في ما بعد مغايرتها وجدتها، الأول بحكم العلاقة مع الفلسفة الماركسية ومن ثم مع فلسفةِ الثورات، فكان لا بدّ من صبغ «الرفاق» بصبغة «المثقف» القادرِ على قيادة المجتمع ودحضِ المقولات القديمة في ما يخص التاريخ والدين وعلاقات الإنتاج والفروقات الاجتماعية بين الرأسمالية والاشتراكية. الطرف الثاني قومي كردي، انتظم في أحزاب، حرّكتهُ ذاته الجريحة وشعورهُ «الأقلوي» أمامَ أكثرية منتظمة في حزب شمولي، يتلطىَّ بالفكرة القومية، ما يجعلُ الطرف الكردي المشغول بنفسه، من حيث شعوره الضمني بتغييب قوميته وحقوقه، وتضييق الخنّاق عليهِ وعلى الجميع بأجهزة أمنية، ادّعت أنها صمَّام أمان «الحزب» في حين كانَ الحزب في درجة أدنى، وليس إلاّ وهماً تخدّرت من خلاله الضمائر وصار الحجة المضللة ليحملَ العربي السوري في داخلهِ شعوراً مطمئناً أشبَه بـ»الحمل الكاذب» سيكتشف بعد زيفه وتطمينه المدمّر إذا عرفنا حجم المراكمة النفسية التي أسسها، حتى صارَ الإنسان المغلوب على أمره في هذه المنطقة قانعاً ومصدّقاً بأنَّ المؤسسات تديرهُ وليست العصابة. انطلىَ الوضعُ على كلِّ الأطراف، أمّا اليسار كحزب فصار جزءاً من (الجبهة الوطنية التقدمية) وبقي «الرفاق» على الهوىَ القديم: «لا للإمبريالية العالمية» ومعا نحو «سيادة البروليتاريا» وظلوا يغنون أغنيتهم الشهيرة: «اسمه مناضل/ أطيب أكلو فلافل». الكردي صارَ حزبياً والمثقف ـ تحديداً ـ أخذتهُ واقعية الحياة وطموحات المثقف، إذ كانَ من الصعوبة الجهر بما هو فوق ثقافي، فالتقى كلاهما السياسي والمثقف في نقطة واحدة وهي العمل على نيل الأقل من قومي المطالب في كردستان الكبرى المتوزعة على أربع دول، ذلكَ أن الظروف لا تخدم طرحاً وحدوياً يخلّصُ هذه الأقسام أولاً ومن ثم يوحدها في دولة واحدة، إذا وجدنا أن أحزاباً عريقة تقاسمت النفوذ والعلاقات الإقليمية، وكلَّ حزب بما يخدم تلك الدولة أو غيرها بحكم مصالح الدول وليس بحكم المصلحة القومية للكرد وتطلعاتهم، وصارت هذه العلاقات هي نفسها علاقات الحكومات العربية ذات الوجهة الاستبدادية، التي تعمل بإيعازات عالمية وبقرارات مخابراتية للدول الكبرى الأكثر مصلحة في الإبقاء على بؤر متوترة، ومنها الأكثر توتراً وشرّا» الشرق الأوسط»، في حين بقي وبمقابلة هذين الوجهين: العرب، سكانُ الريف الذين وجدوا علاقتهم واهية بالسياسة إلا في حدود» الفرقة الحزبية» ومطالبهم في بند «ما يستجد من أمور» كانت تنصّب أكثر ما تنصبُ على المطالب بحفر آبار ماء عميقة تؤمن الماء الحلو أو تؤمن الكهرباء أو طرق «بقايا» تربطهم بالمدن في حالاتِ الأمطار الغزيرة، وإذا حدث وتوفرت شخصيات لها اعتبار ثقافي أو لها علاقة مع الكتاب والصحيفة والخبر تحليلاً فإن هؤلاء معنيون بالمواربة والتخفي ومن المفارقات أن رجل الأمن الذي دخل غرفتي في القرية ورأى صورة غيفارا المحفورة على البللور، التي أهداها لي رفيقي في الخلية الشيوعية، أشادَ بقدرة الرسَّام الذي أستطاعَ مقاربةَ صورتي بهذه الدرجة، لحسن الحظ أنَّ غباء (زلمة) المخابرات خَدمني حين ظنَّ أنَّ تلك الرسمةَ تخصني ولا تخص ثائراً أرجنتيني المولد.
لم يكن الكتاب جوهر القضية، فخلاف المناضل (صحيفة البعث الداخلية)، ونشرات الأحزاب السرية هو ضرب من الوهم لا أكثر، باستثناء كتب «دار التقدم» وما جاءت به الشيوعية المنظمّة، التي رأت في الشيوعية السوفييتية غطاء لها، ولذلك كانت مكتبتي المجمّعة في أكياس من الخيش والصناديق الكرتونية هي وهب الرقابة الأهلية الداخلية حرقاً وتمزيقاً، وكم من المرات التي ألقمَت بعض النسوة في قرية لا تعرف من الكتب إلا المدرسية كتاباً لمحمد عابد الجابري أو ديوان المتنبي أو ترجمات لسان جون بيرس وت إس إليوت أو قراءة نقدية لرولان بارت، لنار التنور في غياب الحطب الكافي لإنضاج الخبز.
كنتُ أحمل الكتب من مكان إلى آخر، ظَنّا أنها كنزي، لما كنت أهرقه من مال في تَصيّد عناوين، لم تكن تسنح لي حالتي المواراة إلا في الحدود الدنيا لعطشي بالقراءة، إذ كنت أكتفي بالعناوين آملاً في يوم سأقرأ كلَّ ما اقتنيت، وما الغرفة التي أثارت دهشة أصدقاء زاروني للمرة الأولى من تكدّس أكوامٍ من الكتب إلا تكدس أرواح من الكتّاب المهمين، حين عرفتُ معلمين جيدين في القراءة دَلوني إلى السمين ونهروني عن الغّثِّ. المرة الوحيدة التي أصبحت المكتبة قريبة وأقرب من مكّب الكتب في غرفة لها قيمتها في ميزان المدينة، إذ لها أن تأوي خمسة أشخاص لو استعاضوا بالأرض عن الأسّرة، حينَ حملت زوجتي بعضَ الخشب الزائد في البيت إلى نجارٍ وقرأت عليه رغبتنا في دروجٍ ورفوف ستحمل كلَّ الأرواح التي توزعّت بعبث في البيت، لكنَّ عَجالة الأيام مؤخراً وتأخرَّ النجار الكسول حال دون مكتبةٍ، حملها أخوتي في ما بعد خروجي إلى سقيفة رطبة فوقَ الحمّام، سيأتيني أنَّ رولان بارت والمتنبي وامرؤ القيس والجابري والماغوط ومحمود درويش والثعالبي وابن الأثير قد أصابتهم الرطوبة والعتمة أخذت منهم الكثير، بحيث يُقرأ سطر منهم ويخفى سطر آخر، هذه الكتب/ هذه الأرواح كانت أنا، ولا يمكن لأحد أن يتصوّر كيف يفقد المرء أخيراً عالماً نجا من الحرق والتمزيق وأيدي اللاعارفين ليكون لقمة سائغة في فم الرطوبةِ في مساحةٍ رطبة حقيرة تعلو الحمّام والمرحاض، إذ أنَّ الساكنَ الجديد للبيت لن يروقه أن تقاسمَهُ هذه الأرواح «الميتة» حياته وفسحاتهُ التي ربما تكون مسرحاً للعبِ أطفالهِ وبرازهم.

كاتب سوري

محمد المطرود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية