بين الفنون والآداب والعلوم علاقات وثيقة، ولا يمكن لأي منها أن يتطور بمعزل عن الآخر. قد يفرض نوع من الفنون، أو جنس أدبي ما، أو اختصاص علمي نفسه على غيره في حقبة ما، ويكون طليعيا.
كما أنه قد يحجب غيره، ويستحوذ على العصر المعرفي أو يفرض نفسه على الساحة الثقافية العامة، لكن رغم تلك الهيمنة يظل لغيره من المجالات والآداب والفنون تأثيرها الخاص وحضورها الوازن، متى كان المشتغلون بمختلف هذه الحقول يسعون إلى تدارك الوضع وفرض أنفسهم، رغم المنافسة غير المتكافئة. أما إذا كان الاستسلام فسيصبح الكل منخرطا في ما هو مهيمن، ويتم التراجع عن الاشتغال بحقول أخرى، فيؤدي ذلك إلى نكوصها وتقهقرها، بل ويمكن التكهن بزوالها.
منذ أن شاعت «أسطورة» عصر الرواية، وأنها ديوان العرب في ثقافتنا المعاصرة، حتى بات حلم القاص والشاعر والمسرحي والأكاديمي، فضلا عن الصحافي والكاتب الشاب، الانخراط في كتابة الرواية. وكان بذلك التخلي عن الاهتمام بتطوير أجناس وأنواع أدبية أخرى. وكان للجوائز الخاصة بالرواية، وإقدام الناشر على طبع الرواية على حساب الشعر أو المجموعة القصصية أو المسرحية دورهما في طغيان المد الروائي، فصار القارئ بدوره شغوفا بمتابعة جديد الرواية، وغير مستأنس بمواكبة النصوص الأدبية الأخرى التي تراجعت إنتاجا وتلقيا.
لا مشاحة في أن للرواية سحرها وجاذبيتها، لكن إلى متى ستظل هذه الرواية تحجب غيرها من الفنون والآداب؟ وكيف يمكنها أن تتطور بمعزل، أو على حساب فنون وآداب أخرى؟ هذا هو السؤال المركزي الذي يدفعنا إلى التركيز على أهمية تفاعل الإبداعات والفنون والعلوم. لقد ساهم المد الروائي في تراجع الاهتمام بالمسرحية والقصة القصيرة والقصيدة. كما ساهم ذلك أيضا في تراجع نقد الشعر والقصة والمسرحية، وإبداعات أدبية أخرى خاصة بأدب الأطفال، وما يتصل بها من فنون صورية.
قبل هيمنة الرواية في المشهد الثقافي العربي، كان الروائي يساهم في كتابة القصة أو المسرحية أو القصيدة. وكان لذلك أثره في تطور الرواية العربية نفسها. وكان القارئ العربي يستمتع بقراءة القصيدة ومشاهدة المسرحية. لكن تلك الهيمنة فرضت التوجه نحو نوع سردي، وتراجع أجناس وأنواع أدبية أخرى. فهل يمكن استشراف مستقبل خاص بالرواية من دون تطور باقي الآداب والفنون في ضوء قولنا بأن تطور الفنون والآداب رهين تطور عام يتسع لها جميعا؟ وهل يمكننا تصور مشهد ثقافي لأمة من الأمم بتطور أحادي لنوع سردي على حساب أجناس أخرى؟
كانت القصة القصيرة رافدا أساسيا لتطور الرواية العربية، وأغلب الروائيين الذين شغلوا الساحة العربية برواياتهم كتبوا القصة قبل الرواية. كما أن تطور السينما العربية، في بداياتها كانت في ضوء تطور كتابة المسرحية وتحويلها إلى عرض مسرحي. ومن الروائيين من مارس كتابة السيناريو إلى جانب كتابة الرواية. فكان جمهور المسرحية، هو جمهور الشريط السينمائي وجمهور القصيدة وقارئ الرواية. أتذكر، أننا والرواية في ريعان فورانها في السبعينيات والثمانينيات، قبل أن تظهر الأسطورة، نتابع جديد الشعر ونستمتع بالعروض المسرحية، وجديد السينما. هذا التوازن الإبداعي ضروري لتطور الآداب والفنون والتفكير فيها، وإذا كنا الآن نعيش واقعيا «عصر الصورة»، وقد صارت القصيدة مغناة ومصورة. فأين هو الشاعر الذي يمكن أن يسهم في كتابة «القصيدة الجديدة» التي يمكن أن تتفاعل مع عصر الصورة. ويمكن قول الشيء نفسه عن السينما والمسرح. لقد صارت السينما تفرض نفسها على المستوى العالمي، وإذا لم تساهم الرواية العربية في تطوير السينما العربية، فلا داعي للحديث عن «عصر الرواية»، فكثير من الروايات إذا لم تتفاعل مع السينما والمسرحية لا يمكن التنبوء بمستقبل زاهر لها في المستقبل. ويمكن قول الشيء نفسه عن المسرحية والعرض المسرحي. فالمسرح فن جماعي، ولقد ساهم في تكوين الجمعيات وخلق إشعاع ثقافي وسط الشباب. وحين نعرف أن أغلب الفنانين والممثلين، الآن، والمبدعين والمثقفين اهتموا بالمسرح في بداياتهم الأدبية، وهم خريجو العمل المسرحي، يتبين لنا ذلك.
كانت المعضلة الكبرى التي تعاني منها المسرحية والسينما في الوطن العربي تكمن في غياب النص السردي، فهل النصوص الروائية قادرة على مد هذين الفنين بما يلزم من نصوص قابلة للتحول إلى فضاء جماعي هو المسرح والسينما؟ ويمكن قول الشيء نفسه عن الموسيقى والتشكيل تأكيدا للعلاقات بين الفنون. إن الجمهور العربي في حاجة أيضا إلى متابعة العرض المسرحي والسينمائي والحفل الموسيقي. تماما كما أن القارئ في أمس الحاجة إلى الاستمتاع بالقصيدة والقصة، والطفل بالحكاية المصورة والرسوم المتحركة التي تقدم إليه بلغة عربية سليمة تسهم في تطوير ذوقه الفني واللغوي. وتشجيع كل هذه الفنون والآداب، كفيل باستكشاف المواهب ودفعها إلى الانخراط في مختلف الإبداعات. ويمكن لهذا أن يلعب أيضا دورا في تطوير الفكر الفني في مختلف جوانبه، فيتطور النقد الفني والمسرحي والسينمائي والصوري، بل إن تطوير هذا الفكر والنقد يسهم أيضا في تطوير النقد الروائي. تطوير «عصر الرواية» رهين بتطوير عصور فنون أخرى، وإلا فهو أسطورة؟
كاتب مغربي
سعيد يقطين
الوضعية التي نلاحظها راهنا عن الإبداع والكتابة الأدبية عندنا هي غير متجانسة، وغير تكاملية وليس لها إطار ثقافي معرفي شامل.. النزوعات تظهر من حين إلى آخر كلما بزغ في الغرب ميل موسمي لجنس أدبي ما بشكل تمططي أو تقلصي في إطار التجديد أو التجدد، ولا دخل لذلك في الهيمنة، بل من أجل التكامل والانسجام الحضري..ولذا فنحن نتبع ولا نبدع، بل نستهلك الموجات المتلاحقة بعيدا عن أية رؤية..ونفس الشي يحصل مع السينما والمسرح والأغنية…وإلا فما هي أسباب الكتابة لدينا والاهتمام بجنس من أجناس الآداب؟ في حين هم يسايرون الحقب لديهم، الواعدة بالتطور وبالاستمرارية الثقافية لحضارتهم.
بعيداً عن هذه الملاحظات التي قديكون أغلبها من خواطر الساعة ؛ والحال بشأن تطور الرواية العربية مشرقاً ومغرباً من عدمه، أطرح السؤال التالي : هل هناك تكامل بين النقد والرواية عندنا في المغرب على الأقل ؟ النقد يهيم في بحر لا حدود له إطلاقاً، لم يرسم بعد طريقه ليتناول العطاء الروائي الذي لوحظ توفر كمي منه سنة بعد أخرى ، ثم بعد ذلك ، السؤال : هل هذا الكم الهائل صحي ؟لا ينبغي الإسراع في إطلاق الأحكام…
محمد الإحسايني- المغرب
لا مُشَاحَّةَ في أن للرواية سحرَها وجاذبيتَها،
ولا مُشَاحَّةَ في أن للقصيدة سحرَها وجاذبيتَها كذلك،
ولا مُشَاحَّةَ في أن للمسرحية وللقصة سحرَهما وجاذبيتَهما كذلك،
لكن إلى متى ستظلُّ هذه الرواية تحجبُ غيرَها من الفنون والآداب؟
والجواب على هذا السؤال المركزي، إذن:
إلى أن يتوقَّف أغلبية الشعراء (أو الكتاب المسرحيين، أو القاصِّين، بقدر ما يتعلق الأمرُ بهم كذلك) عن إفلاسهم الإبداعي في هذا الجنس الأدبي بالذات، وعن لجوئهم الانهزامي إلى جنس الرواية «الأكثر عصرية» و«الأكثر حرية»، وبالتالي عن سماحهم الواعي، أو حتى عن سماحهم اللاواعي، لمدِّ أسطورة الغزو الثقافي الغربي حتى في الكتابة الإبداعية – خصوصًا وأن فنَّ الرواية، دون غيره من الأجناس الأدبية، إنما هو فنٌّ غربيٌّ بامتياز.